09‏/04‏/2012

يوم الخميس من أحداث أسبوع الآلام: 4- يسوع المسيح في بستان جسثيماني




يسوع المسيح في جثسيماني

    (مت30:26، 36-46+ مر26:14، 32-42+ لو39:22-46+ يو1:18)(مت30:26، 36-46)

الآيات (30، 36): "ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون. حينئذ جاء معهم يسوع إلي ضيعة يقال لها جثسيماني فقال للتلاميذ اجلسوا ههنا حتى امضي واصلي هناك."
سبحوا= كان اليهود معتادين أن يسبحوا بالمزمورين (115، 116) في نهاية أكلهم الفصح وهنا هم قدموا تسابيح بعد تناولهم سر الشكر. وهذا ما تعمله الكنيسة أثناء التوزيع أنها تسبح بالمزمور (150).
جثسيماني= كلمة آرامية تعني معصرة زيت، وهي كانت في بستان للزيتون علي جبل الزيتون، وغالباً كان يملكه مارمرقس. وكان هذا البستان مفضلاً عند الرب يسوع ليجتمع فيه مع تلاميذه للصلاة والتعليم. ولقد أتى السيد مع تلاميذه إلى هذا المكان كمن يدخل بإرادته إلى المعصرة، ولقد رآه إشعياء بروح النبوة يجتاز المعصرة الحقة (أش1:63-3). رآه إشعياء يجتاز المعصرة وحده. وإن كان يسوع يصلي في ضيقته فكم بالأولى نحتاج نحن إلى الصلاة في ضيقاتنا فيسندنا الله.
 
الآيات (37، 38): "ثم اخذ معه بطرس وابني زبدي وأبتدأ يحزن ويكتئب. فقال لهم نفسي حزينة جداً   حتى الموت امكثوا ههنا واسهروا معي."
بطرس وإبني زبدي= هم رأوه أيضاً في حالة التجلي، فمن رأى التجلي يكون مستعداً أن يعاين الآلام دون أن يشك. يحزن ويكتئب= ليس خوفاً من الآلام الجسدية وإنما لأجل ثقل الخطية التي لا يقبلها ولا يطيقها، والموت الذي كان مقبلا عليه وهو ضد طبيعته، فهو الحياة، وخيانة البشر وكراهيتهم له وهذا ضد طبيعته فهو المحبة. ولكنه أتى ليحمل خطايانا ويميتها بموته. نفسي حزينة جداً حتى الموت= هو كإنسان كاد يموت لو لم يلقي معونة جسدية ليحتفظ بحياته لذا ظهر له ملاك يقويه. ونرى أن تلاميذه لم يستطيعوا حتى أن يشاركوه في أحزانه وصلاته بل ناموا.. حقاً لقد جاز المعصرة وحده. وشدة الحزن قد تؤدي للموت فعلاً.
 
آية (39): "ثم تقدم قليلاً وخر على وجهه وكان يصلي قائلاً يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت."
إن إرادة الآب وإرادة الإبن واحدة فهما روح واحد، ولكنه جاء نيابة عنا نحن الذين رفضنا إرادة الله فخضع للصليب بسرور من أجل الطاعة للآب. وفي نفس الوقت كان المسيح يريد ذلك. ونرى في كلام المسيح أنه يعلن إرادة الآب المحب (يو16:3). لماذا طلب المسيح أن تعبر عنه الكأس [1] هل خاف؟ [2] هل هو لا يعلم أنه سيقوم؟ [3] هل إرادته غير الآب؟
1)   لقد سلَّم المسيح نفسه بإرادته، فهو كان يمكنه الهرب وقت أن سقط الجند عند قوله أنا هو (يو6:18)، بل هو كان في إمكانه أن يؤذيهم كما سبق وفعل بشجرة التين بل هو قال لتلاميذه "قد إقترب الذي يسلمني" فلو أراد الهرب لهرب. وكان يمكنه أن يجتاز كما إجتاز من قبل دون أن يمسه أحد (لو29:4، 30+ لو53:22+ يو10:10+ في6:2-8+ يو17:10+ يو1:17+ مت21:16-23+ مت46:21+ يو44:7+ يو59:8) بل  هو ثبت وجهه لينطلق إلى أورشليم حين تمت الأيام لإرتفاعه (لو51:9). من هنا نفهم أنه لم يخاف الموت. وهناك من يسأل لماذا ذهب إلى بستان جثسيماني في جبل الزيتون ألا يعتبر هذا هروباً؟ والإجابة أن اليهود كانوا لا يريدون إلقاء الأيدي عليه وسط المدينة حتى لا يحدث شغب كثير بسببه. والدليل أن يهوذا كان يريد أن يسلمه خارجاً عن الجمع، والمسيح كان يعلم أن يهوذا كان عارفاً بأنه يذهب إلى بستان جثسيماني (يو2:18). ولو حدث قتل وشغب لكان هذا دليلاً لليهود أن بسببه صار شغب وقتل وبالتالي فهو يستحق الموت، وتكون حجتهم أنهم قتلوه ليمنعوا الشغب. وهو ذهب للبرية أيضاً ليعطي فرصة لتلاميذه أن يهربوا بعد إلقاء القبض عليه (يو8:18، 9). فكان التلاميذ في ضعفهم سينكرون الإيمان كلهم كما فعل بطرس، فضلاً عن أن السيد كان قد إعتاد أن يصلي في البرية وهو لم يرد أن يصلي في العلية فيسمعونه، أي تلاميذه. ولو حدث القبض عليه في المدينة فسيدافع عنه أحباؤه، وهو لا يريد لأحد أن يدافع عنه. فهو يسلم نفسه بإرادته ولا يريد كرامة بشرية من أحد، كما أنه لا يريد أن يُقتل أحد بسببه.
2)   هو أعلم تلاميذه بقيامته (مت21:16)، بل كان يعلم كل شيء، وعلم أن بطرس سينكره 3مرّات، وعرف أن بطرس يصطاد سمكة بها استاراً (مت27:17) وهو علم حال السامرية وكان يعلم ضمائر الناس وتنبأ بما سيحدث لأورشليم وأعظم شيء في هذا المقال قوله ليس أحد يعرف الآب إلاّ الإبن (مت27:11). إذاً هو كان عارفاً بما سيحدث له، فلماذا إذاً صلّى لتعبر عنه هذه الكأس؟ هو بهذا أظهر أنه إنسان كامل يضطرب ويحزن، كما كان يجوع ويعطش.. وهو بسماحه أظهر إضطرابه لنعرف إنسانيته ثم أظهر شجاعته بعد ذلك مع الجند. وكان إظهار إضطرابه ليستدرج الشيطان ليقترب منه فيغلبه الرب، فهو كان يخفي عن إبليس تدبيره. وهو صلَّى هكذا لنتعلم أن نصلي "لتكن مشيئتك".
3)   السيد قال أنا والآب واحد (يو30:10) وكل ما للآب هو لي (يو15:16). فإذا كانا واحدا في الذات فهما واحداً في المشيئات. والمشيئة الإلهية إتحدت أيضا بالمشيئة الإنسانية حين إتحد اللاهوت بالناسوت. وحتى قوله ما جئت لأصنع مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني (يو19:5،38:6) لا يعني وجود مشيئتان بل أن الجسد في ضعفه العادي يريد شيئاً ولكن المسيح لا ينفذه، لأن مشيئته هي أن يصنع مشيئة الآب. بل حتى القديسين صار لهم نفس الوضع فهم لا يصنعون سوى مشيئة الله ولا يستجيبون لنداءات الجسد. فكم بالأكثر من إتحد لاهوته بناسوته. لكل هذا نرى أنه أطاع حتى الموت موت الصليب.. أي إنسان منا إذا علم أن هناك ضيقة تنتظره من المؤكد سيضطرب ويتمنى ألا تحدث، ويصلي. وبعد فترة من الصلاة يقنعه الروح القدس بأن يسلم الأمور لله، فيقول "لتكن مشيئتك" والمسيح لأن إنسانيته كانت كاملة إضطرب إذ أتت الساعة بينما هو كان يعرفها. وصلى. ولكن لم يأخذ الأمر معه وقتاً ما بين "إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس" وبين "ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" لقد أختزل الوقت إلى لا شيء. فإرادته هي إرادة الآب هي الإرادة الإلهية التي فيه.
4)   يضاف لذلك تشوق السيد لهذه اللحظة التي يفدي فيها البشرية بدليل قوله "قوموا ننطلق من ههنا" أي لماذا أنا مازلت بعيداً عن بستان جثسيماني حيث يُلقى القبض عليّ. وهذا تنبأ عنه إشعياء "ليس لي غيظ. ليت عليّ الشوك.." (4:27، 5).

قصص حزن المسيح تختلف من إنجيل لآخر فلماذا؟

لقد أخبر كل واحد من الإنجيليين بحال من أحواله، وبعضهم إشترك في بعض الأخبار. وعموماً هم إقتسموا الأخبار ومن هنا نرى تكامل الأربعة أناجيل.

لماذا كانت آلام المسيح رهيبة؟

كانت أحزان المسيح لا تحتمل، فأضف لآلام الجسد آلام النفس أيضاً، فهو تألَّم بسبب خيانة يهوذا تلميذه وهروب باقي تلاميذه وصراخ الجموع ضده وهو الذي كان يجول يصنع خيراً،وهذا يضاد طبيعته التي هي المحبة. وحزين لهلاك اليهود الذين أتى لخلاصهم. وهو كان عالماً بكل الآلام والإهانات التي ستقع عليه. ونضيف لهذا أن المسيح كان سيحمل خطايا البشر، وهذا ما فاق إحتماله لقداسته المطلقة، وكان سيتذوق الموت وهو الحياة نفسها، بل كان يعلم أن الآب القدوس سيحجب وجهه عنه حينما يحمل خطايا البشر، وهذه النقطة بالذات يصعب علينا أن نتصورها لأننا لا نعلم حقيقة العلاقة بين الآب والإبن. والمسيح أراد إظهار ضعفه وحزنه وإضطرابه ليطمع فيه الشيطان ويظن أنه قادر أن يغلبه، فيغلبه المسيح. وأيضاً كونه أظهر ضعفه فقد أظهر إنسانيته الكاملة. هو بالضعف هزم قوة الشيطان وبالموت داس الموت.

لماذا صلّى المسيح 3 مرّات أو لماذا أيقظ السيد تلاميذه 3 مرّات؟

هذا فيه إشارة إلى رقم (3) رقم القيامة وهذا ما قاله بولس الرسول (رو11:13-14 + أف14:5) وكان المسيح يصلي ليعلم تلاميذه أن يصلوا عند أي تجربة، وهو كان يطلب منهم الصلاة في هذه الساعة بالذات والتي إقترب فيها إلقاء القبض عليه حتى لا يقل إيمانهم فيه ويضربهم إبليس بالشك. والسيد كما علّم تلاميذه التواضع بأن غسل أرجلهم علمهم الصلاة في الضيقات في هذه الليلة. وكما علمهم أن يصلوا منفردين، إنفرد عنهم ليصلي، ولكنه لم يبتعد كثيراً ليتعلموا طريقة الصلاة. وهم أخذ (3) تلاميذ فشهادة الثلاثة قانونية. وهم كانوا أقرب التلاميذ لنقاوتهم ومحبتهم الكاملة. وهو أرادهم أن يشهدوا حزنه على العالم الذي فسد وإسرائيل ابنه البكر الذي رفضه، وأن آلامه كانت حقيقية. ويشهدوا بهذا أمام العالم فيكره الناس الخطية التي سببت كل هذا للرب.
 
St-Takla.org Image: Golden Text: - Watch and pray, that ye enter not into temptation. Matt. 26:41 صورة في موقع الأنبا تكلا: اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة. متى 26: 41.
آية (41): "اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة أما الروح فنشيط وأما الجسد فضعيف."
لاحظ كلمات التشجيع الروح نشيط والجسد ضعيف= أي أن السيد يعطيهم عذراً في نومهم، أن جسدهم ضعيف، لكن روحهم نشيطة.
 
آية (45): "ثم جاء إلى تلاميذه وقال لهم ناموا الآن واستريحوا هوذا الساعة قد اقتربت وابن الإنسان  يسلم إلى أيدي الخطاة."
ناموا الآن واستريحوا= هو توبيخ لطيف المقصود به ناموا الآن إن استطعتم فلقد أتت الساعة التي تتفرقون فيها. والسيد يعاتبهم فهم لم يفهموا قوله اسهروا لذلك قال لهم ناموا. وربما قصد أنه غير محتاج إليهم في الأمور التالية التي ينبغي أن يحتملها وحده.
 
آية (46): "قوموا ننطلق هوذا الذي يسلمني قد اقترب."
هنا نرى السيد هو الذي يذهب ليقابل يهوذا= قوموا ننطلق. وهذا يثبت أنه سلم نفسه بإرادته.
-            المسيح حمل كل خطايا البشر في جسده ليموت بها ليلغيها بقوة قيامته وقدوسيته.
 
(مر26:14، 32-42)
آية (26): "ثم سبحوا وخرجوا إلى جبل الزيتون."
بعد أن قدّم السيد جسده ودمه ذبيحة حب سبح مع تلاميذه، ربما تسابيح الفصح المفرحة، معلناً أن العلية قد امتلأت فرحاً وحمداً لله. ولماذا أخذ السيد تلاميذه إلى جبل الزيتون؟
1-             ليشاركوه حزنه وبكائه على أورشليم، وليعلموا كم قدم لأجلهم.
2-    هو ذهب ليصلي، ليدخل في لقاء مع الآب يتسلم فيه كأس الصليب من يديه مع مرارته الشديدة، وكأن السيد يريد أن يعلم تلاميذه أن يتقبلوا من الآب أي شيء حتى الصليب المر الذي يسمح به، هنا يعلمهم حياة التسليم الكامل.
3-    هو صعد أيضاً على جبل الزيتون، والزيتون بما فيه من زيت يشير لعمل الروح القدس فهم لن يستطيعوا تقبل الألم من يدي الآب ولا مشاركة المسيح أحزانه إلاّ بمعونة الروح. والسيد كان يعدهم أيضاً لحمل الصليب والآلام، فإن كانوا قد فعلوا هذا بالرب فلسوف يفعلون بهم هكذا. لكن هناك تعزيات سمائية تساندهم.
4-    أخذ معه تلاميذه الذين رأوا التجلي، فإذا رأوه يحزن ويكتئب ودموعه تتقاطر يدركوا تأنسه ودخوله تحت الآلام دون أن يتعثروا، فقد رأوه في تجليه ومجده.
5-    إن كان آدم قد خالف الله في بستان ففقدت البشرية سر حياتها وبهجتها وسلامها خلال عصيانه، ففي بستان جثسيماني دخل آدم الأخير كما إلى معصرة يعتصر فيها بالألم ليرد بطاعته للآب ما فقدته البشرية.
 
آية (34): "فقال لهم نفسي حزينة جداً حتى الموت امكثوا هنا واسهروا."
أحزان يسوع هنا ليست بسبب الموت الجسدي والآلام النفسية وإلاّ لكان كثير من الشهداء قد أظهروا شجاعة أكثر من المسيح. ولكن أحزان المسيح الجسدية والنفسية يضاف لها أحزانه الروحية لاحتجاب وجه الآب عنه كحامل خطايا وهو الذي بلا خطية. أحزانه لن نفهمها ولن ندركها ولن يدركها سواه. وإذا كان المسيح قد صلَّى للآب لتصير إرادته خاضعة فعلينا أن نصلي نحن أيضاً قائلين لتكن إرادتك، فهو ذهب للصليب منتصراً إذ سلم إرادته للآب، وهكذا كل من يسلم إرادته للآب ينتصر. ومن يريد أن تثبت إرادته هو لا إرادة الله ينهزم. واسهروا= ليكونوا مستعدين للهروب إذ يأتي الجند للقبض على يسوع.
 
آية (36): "وقال يا أبا الآب كل شيء مستطاع لك فاجز عني هذه الكأس ولكن ليكن لا ما أريد أنا بل ما تريد أنت."
آبّا الآب= هو تعبير يعني "يا أبويا الآب" واستخدمه بولس الرسول (رو15:8+غل6:4)
(لو39:22-46)

دخل المسيح إلى البستان في هذه المرة الأخيرة كما إلى هيكله المقدس ليترك ثمانية من تلاميذه في الدار الخارجية، ويدخل بثلاثة منهم إلى القدس، وأخيراً ينطلق بمفرده ليجثو في قدس الأقداس كرئيس كهنة أعظم يقدم ذبيحة فريدة عن العالم، يقدم حياته مبذولة طاعة للآب وحباً للبشرية وكل منّا يستطيع أن يدخل معه وبه إلى جثسيماني وندخل إلى معصرة الألم، كل بحسب قامته الروحية إمّا مع الثمانية أو مع الثلاثة، أمّا العمل الكفاري فللمسيح وحده، هو إختصاصه وحده. وعلينا أن نعرف أن كل البركات التي أخذناها تُثير حسد الشياطين فيثيروا ضدنا التجارب وعلينا أن نصلي لنغلب.

 
آية (40): "ولما صار إلى المكان قال لهم صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة."
صلوا لكي لا تدخلوا في تجربة= بعد كل مرة نتناول فيها علينا أن نصلي ولا ننام لكي ننال النصرة والغلبة أن هجمات العدو لابد وستأتي. المسيح كان يريد لتلاميذه أن يكونوا في حالة صلاة حين تأتي التجربة ويصل يهوذا والرجال فلا يضعفوا ويخوروا. وهذا معنى وصية المسيح وبولس الرسول أن نصلي بلا إنقطاع ولأنهم لم يصلوا فبطرس أنكر إذ أتت التجربة وباقي التلاميذ هربوا.
 
آية (41): "وانفصل عنهم نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلى."
وجثا على ركبتيه= دليل ناسوتيته. وهو جثا وحده دون التلاميذ. فالتلاميذ لم يكن لهم أن يشاركوه هذه اللحظات التي حمل فيها ضعفنا وشفع بدمه عنا لدى الآب. كان عمله فريداً في نوعه.
 
آية (42): "قائلاً يا أبتاه إن شئت أن تجيز عني هذه الكأس ولكن لتكن لا إرادتي بل إرادتك."
لتكن لا إرادتي بل إرادتك= السيد صحح وضع البشر بالنسبة للآب، فآدم وبنيه عصوا وبحثوا عن إرادتهم (الأنا) وليس ما يريده الله. وجاء السيد المسيح ليقدم الطاعة والخضوع كنائب عنا، مع أن إرادته واحدة مع أبيه. لقد كان السيد يمكنه أن يحضر جيوش الملائكة لتمنع عنه هذه الكأس، ولكنه هو أرادها، فهو أراد أن يشرب الكأس التي أراد له الآب أن يشربها ويقدمها له. بهذا يقدم نفسه مثالاً لشرب كأس الآلام بصبر. قدّم نفسه مثالاً بالعمل لا بالكلام.
 
آية (43): "وظهر له ملاك من السماء يقويه."
ظهر له ملاك من السماء يقويه كانت هناك ملائكة تسبح يوم الميلاد، وبشروا الرعاة، وتقدموا لخدمة السيد بعد التجربة من إبليس (مت11:4). وملائكة بشرت النسوة بعد القيامة، وملائكة تراءت للتلاميذ بعد الصعود. وهذا ما دفع البعض أن يتصور أن هناك ملائكة قد تعينوا لخدمة السيد وقت تجسده، فإذا كانت الملائكة تخدم البشر أفلا تخدم ملك الملوك (عب14:1). وهكذا كل من يصلي يجد معونة من السماء فالملائكة تخدم البشر في محبة. ويقال أن الملاك الذي ظهر للمسيح كان يقول له "لك القوة يا رب،لك المجد، لك العزة" وهذا ما تسبح به الكنيسة في أسبوع الآلام.
وربما أن الملاك حين رأى السيد في آلامه في البستان تقدم ليقويه، كما حاول بطرس أن يضرب عبد رئيس الكهنة ليساعد المسيح، ولكن غالباً فالمسيح لم يكن محتاج لمعونة الملاك وبالتأكيد لم يكن محتاج لسيف بطرس. وكأن الملاك الذي أتى للسيد ليقويه أراد أن يقول له، حتى وإن قام عليك البشر ولم يعرفوك فنحن نعرفك من أنت، نحن نحبك حتى وإن لم يحبوك، نعرف عظمة مجدك وإن لم يعرفها البشر.
 
آية (44): "وإذ كان في جهاد كان يصلي بأشد لجاجة وصار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض."
صار عرقه كقطرات دم نازلة على الأرض= هذه الظاهرة ظاهرة نادرة تسمى HEAMATIDROSIS. لأنه في الأحوال العادية حين يزداد الألم بالإنسان حتى لا يستطيع أن يتحمل، ففي هذه الحالة غالباً ما يفقد الإنسان وعيه، ولكن إذا لم يحدث هذا فإن الشعيرات الدموية المحيطة بالغدد العرقية يزداد الضغط عليها فتنفجر وينضح الدم من البشرة مختلطاً بالعرق. وهذا لا يحدث من جبهة الإنسان فقط بل من الجسم كله، ويكون نتيجة ذلك أن يتسمم جسم الإنسان. ولأنها ظاهرة طبية فقد لفتت أنظار لوقا الطبيب. ونزل الدم على الأرض، وهذه أول مرة يسفك فيها دم المخلص لأجلنا. ( وتلطخت ثيابه بالدم. ولوقا يحدد هذه الحالة بقوله وإذ كان في جهاد= فقد دخل السيد المسيح في صراع حقيقي، حتى سال دمه وصار هابيل الجديد الذي تتقبل الأرض دمه طالباً النعمة لكل مؤمن. وبينما كان السيد في هذا الجهاد كان تلاميذه نائمون ويهوذا والكهنة يتآمرون.
قطرات دم نازلة على الارض = لتعطى حياة للبشر الذين على الأرض، فالدم حياة. ولأن دم المسيح يعطى حياة فهو يتكلم أفضل من هابيل (عب 12: 24). ولاحظ ما قيل عن جهاد المسيح والكأس التي شربها (عب 5: 7).

(يو1:18) 
آية (1): "قال يسوع هذا وخرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون حيث كان بستان دخله هو وتلاميذه."
خرج= هذه لا تفيد العلية، فالسيد وتلاميذه سبق وتركوا العلية التي كانوا مجتمعين فيها (راجع يو31:14) "قوموا ننطلق من ههنا" كإفادة للخروج من العلية. وغالباً ذهبوا للهيكل. أمّا قول الكتاب هنا خرج فهي تفيد خروجهم من الهيكل إلى عبر وادي قدرون إلى جبل الزيتون. خصوصاً إن وادي قدرون يفصل الهيكل عن جبل الزيتون الملئ بأشجار الزيتون. وبذلك تكون صلاة المسيح الشفاعية الختامية قد حدثت في الهيكل.
قدرون= هو نهير يجف صيفاً فيترك قاعه جافاً كالوادي ليَمُرْ المارة فوقه، وفي الشتاء يمتلئ من المطر. وهذا المشهد الحزين لخروج المسيح إلى جبل الزيتون هو مشهد مكرر لخروج الملك داود حزيناً هارباً من ابنه إبشالوم بمشورة أخيتوفل. وإسرائيل هي ابن الله البكر وأخيتوفل رمز ليهوذا وكلاهما إنتحر (2صم23:15، 30).


يوم الخميس من أحداث أسبوع الآلام: 3- مقارنة بين صلاة المسيح في (يو17) وبين صلاة بستان جثسيماني






    مقارنة بين صلاة المسيح في (يو17) وبين صلاة بستان جثسيماني

     صلاة المسيح في (يو17) طابعها المجد وإستعلان ملء لاهوته، أمّا صلاة بستان جثسيماني حينما عرق دماً وطلب إعفائه من شرب الكأس (عب7:5 + مر36:14 + لو44:22) فطابعها ملء ناسوته والذي فيه أخلى المسيح ذاته (في7:2،8) وفي كلا الصلاتين نرى الكلمة صار جسداً (يو14:1). والله ظهر في الجسد (1تي16:3). أي نرى الإله المتجسد الذي قبل أن يحمل ضعف الإنسان ليرفعه ليحيا في السماويات.


    أين صلى المسيح هذه الصلاة؟

     في (يو1:18) قيل أنه خرج مع تلاميذه إلى عبر وادي قدرون. وهذا قيل بعد أن أنهى المسيح صلاته الشفاعية في (ص17). ووادي قدرون هذا يفصل بين الهيكل وبين جبل الزيتون حيث بستان جثسيماني. فيكون غالباً أن المسيح قال هذه الصلاة في الهيكل، في بيت الله يقدم هذه الصلاة للآب أبيه فبيت أبيه بيت الصلاة يُدعى. وهي صلاة فيها مجد للابن وللآب، وللإنسان، فقد كان عمل المسيح الذي تممه هو أن يعطي للإنسان مجداً.


    صلاة المسيح الشفاعية الأخيرة للآب

    وهي موضوع الإصحاح (17). وهي طلبات مباركة رفعها الرب يسوع من أجل التلاميذ ومن أجل المؤمنين أعضاء كنيسته. وفيها نرى علاقة ابن الله بأبيه. وكيف أنهما واحد، جوهر واحد متحد في كيان واحد يتسامى على فهم البشر، إلاّ للذين يُعطِى لهم الله أن يدركوا وأن يفهموا، وهؤلاء هم من الأنقياء القديسين المؤمنين الذين يفتح الله بصيرتهم ليروا بعين الروح لا الجسد.


    هي صلاة تكريس

    فالمسيح أنهى تعاليمه للتلاميذ بقوله "ثقوا أنا قد غلبت العالم" (33:16). وهذه كانت المدخل لصلاة التكريس التي كرَّس فيها نفسه للموت كآخر مرحلة من مراحل خطة الخلاص التي جاء بها من عند الآب. وقوله أنا قد غلبت العالم تعني أنه بلا خطية، وأنه قدوس لا تمنعه خطية واحدة من أن يقدم ذاته ذبيحة لأجل الآخرين. وبقداسته الكاملة تأهل أن تكون ذبيحته شاملة لكل العالم، فهو غلب في معركة العالم وبناء عليه إستحق أن تقبل ذبيحته ويُعْلَنْ مجده فَتُفْهَمْ ذبيحته أنها ذبيحة إلهية. وكل من يشترك في هذه الذبيحة يشترك في إنتصارها فهي ذبيحة إنتصار لحسابنا (1يو4:5، 5) ونحن نشترك في الذبيحة بالإيمان والتناول من الذبيحة وعدم التعلق بالخطية والعالم ومن يغلب سيجلس مع المسيح في عرشه (رؤ1:3). ولأن المسيح غلب العالم فهو استطاع أن يغلب الموت (يو30:14 + رؤ2:6)


    هي صلاة شفاعية

    فيها يطلب المسيح من أجل خاصته وأحباءه والمؤمنين به. نرى فيها محبة فياضة يفيض بها قلبه نحوهم. في هذه الصلاة نرى صورة لشفاعته عنا في السماء. ونلاحظ أن شفاعة المسيح هذه ليست لكل العالم بل لمن قال عنهم "الذين أعطيتني" وهذه العبارة تكررت في هذا الإصحاح (7مرات) ويعني بها المؤمنين الذين آمنوا به وإتحدوا به في المعمودية وظلوا حياتهم في حياة توبة. أي صاروا جسده من لحمه ومن عظامه (أف30:5).

    في (يو31:13) حينما خرج يهوذا لتدبير مؤامرته قال المسيح الآن تمجد ابن الإنسان وفي (يو1:17) يبدأ صلاته بقوله أيها الآب قد أتت الساعة مجد إبنك. ففي بداية حديثه مع تلاميذه والذي بدأ بالآية (يو31:13) وإنتهى بنهاية (ص16) وفي بداية حديثه مع الآب يشير لمجده الذي سيظهر في الصليب، يشير للصليب الذي يكلله المجد. المجد الذي كان بطاعته الكاملة للآب، طاعة حتى الصليب. ومحبة كاملة للآب وللبشر الذين سيصلب من أجلهم. الصليب بداية لأن يجلس بجسده عن يمين الآب في مجد، هو أراد أن يعطيه للإنسان فبالصليب كانت النصرة على قوات الظلمة والجحيم والموت والخطية. وبه تم تقييد إبليس. وهو العلامة المرعبة لإبليس دائماً.


    أقسام الصلاة الشفاعية

    (الآيات 1-5): تدور حول مجد الإبن الذي هو مشترك مع مجد الآب. والإبن يطلبه لحساب الإنسان عموماً.

    (الآيات6-19): تدور حول حفظ وتقديس تلاميذه.

    (الآيات20-26): تختص بوحدة الكنيسة على طول المدى.



    الإصحاح السابع عشر:

    آية (1): "تكلم يسوع بهذا ورفع عينيه نحو السماء وقال أيها الآب قد أتت الساعة مجد ابنك ليمجدك    ابنك أيضاً."

    رفع عينيه نحو السماء وقال= نحو السماء= إشارة لأنه بدأ يتحدث مع الآب، بدلاً من كلامه مع التلاميذ. المسيح هنا يدخل في حديث إلهي. فالسماء رمز الحضرة الإلهية. هو حديث إلهي بين الآب والإبن. ولكنه على مستوى الإنسان لنسمع ونفهم ونرتقي للمستوى الروحي فالإنسان مدعو للدخول في شركة الآب والإبن (1يو3:1). لذلك قصد السيد المسيح أن تكون هذه الصلاة مسموعة لنسمعها ونفهمها لندخل في هذه الشركة مع الله. أيها الآب= لم يقل يا أبانا كأننا صرنا مثله وصار هو إنساناً واحداً من البشر لا يفترق عنهم، بل هو الإبن الوحيد الجنس للآب، ابن الآب بالطبيعة. ولكن المؤمنين هم أبناء بالتبني (يو17:20). ولم يقل يا أبي فهو بفدائه الذي سيتم بعد قليل سيعطي للإنسان البنوة فيه. فهو هنا يتكلم لا كواحد من البشر بل كرأس للخليقة الجديدة المدعوة للتبني، هو هنا يمثل هذه الخليقة (رو15:8 + غل6:4) وبنفس المفهوم قال أبي وأبيكم (يو17:20). قد أتت الساعة= هي ساعة متفق عليها بين الآب والإبن. إذاً المسيح يعرف تماماً هذه الساعة التي ستبدأ بالصلب والمهانة ثم المجد. مجد إبنك ليمجدك إبنك أيضاً= بداية مجد الإبن كانت بطاعته للآب وقبوله للصليب فبالصليب النصرة (في6:2-11 + يو13:12-16 + 19:21 + 23:12). والمسيح يتمجد أيضاً بإستعلان طبيعته الإلهية أمام العالم بقيامته وإنتصاره على الموت (وهذا يعني قبول الآب لذبيحة ابنه وعمله) وإنتصاره بالموت على الموت وكسره لشوكة الموت وفتح بفدائه باب السماء للناس ليعطيهم حياة أبدية. والآب يمجد الإبن بتعضيده وتأييده ليكسر شوكة الموت ثم برفعه وأن يعطيه إسماً فوق كل إسم. وحينما يتمجد الإبن يتمجد الآب أيضاً حينما يعلم البشر أن خطة الخلاص بدأت بإرسال الآب لابنه (في9:2-11). وسيتمجد الآب حين يستعلن الإبن الآب ومحبته للبشر. ونرى هنا العلاقة الواضحة بين مجد الإبن ومجد الآب فهي علاقة متبادلة على المستوى الواحد (يو27:12-30). فالآب يتمجد بالإبن كما تمجد الإبن بالآب (يو31:13). وقول المسيح "إبنك" ولم يقول الإبن فيه إشارة أن تمجيد الإبن شرط ليتمجد الآب فالإبن هنا منسوب للآب. مجد الإبن ظهر أولاً في أنه فعل ما فشل البشر أن يقوموا به. وما فشل فيه الإنسان هو طاعة الله والنصرة على الشيطان والموت، وهذا ما قام به المسيح. وقمة طاعة الإبن كانت في الصليب، قمة الطاعة. والمؤمنين سيكون لهم هم أيضاً مجد ولكنه إنعكاس لمجد الله عليهم "لأننا سنراه كما هو" (1يو2:3) ولكن نجماً يمتاز عن نجم في المجد بحسب القرب أو البعد من الله يصدر كل مجد (رو30:8 + 1كو41:15).

    مجد إبنك ليمجدك إبنك= هل الآب محتاج لأن يتمجد أو هل الإبن محتاج لأن يتمجد؟ الآب في الإبن والإبن في الآب منذ الأزل في مجد. ولكن الإبن أخلى ذاته وأخذ صورة عبد وأتى للصليب لكي يمجد الإنسان، ليعطي مجداً للإنسان (22:17). فالمجد الذي يطلبه المسيح هو للإنسان، يتمجد ليعطينا هذا المجد (رو17:8).

    مجد إبنك= أنا ذاهب للصليب وأطلب القيامة والصعود وإظهار المجد الخاص بي كابن فكل هذا سيكون للإنسان. فالآب مجد ابنه المسيح في قبول عمله ونصرته على قوات الجحيم والموت. فالمسيح لا يطلب المجد لأنه مشتاق إليه، فهو بلاهوته واحد مع الآب ولهما نفس المجد. لكنه تجسد ليمجد جسده الذي هو كنيسته، وهذا ما يطلبه الآن، النصرة على الموت كبداية ليحصل الإنسان على المجد (راجع آية22:12).

    ليمجدك إبنك= لكي أظهر محبتك للبشر فيحبوك ولكي أعلن لهم أبوتك. فالمسيح أتى ليستعلن محبة الآب والمجد الذي يريد الآب أن يعطيه للبشر. فيؤمن الناس بالله ويتركوا تبعيتهم لغيره، ويمجدوه باعمالهم.

    وفي (ص12) حين طلب اليونانيون أن يروا يسوع. قال المسيح "مجد إبنك" فجاء صوت من السماء "مجدت وأمجد أيضاً" فقال المسيح "هذا الصوت كان لأجلكم" أي لتعرفوا أن المجد الذي أطلبه هو لكم.

    هل لو فهم كل إنسان أن هذا المجد السماوي معد له يرجع إلى خطيته أو اهتمامه بشهوات العالم الباطلة.

    إن هدف المسيح من تجسده ليس فقط غفران الخطية. بل بعد غفران الخطية نصير طاهرين فنثبت في المسيح فيأخذنا للحياة الأبدية في مجد. والمسيح صلي هذه الصلاة بصوت مسموع لنعرف إرادة الله من نحونا فتتغير شكل عبادتنا:-

    1.   لا نعود نعبد إله مرعب مخيف منتقم، بل إله، أب، محب نقول له "أبانا الذي.." ويريد لنا المجد.

    2.            نحتقر شهوات هذا العالم في مقابل هذا المجد.

    3.            أمام هذا الحب الإلهي نقدم كل شيء حتى حياتنا لمن أحبنا كل هذا الحب.

    4.            لا تعود عبادتنا عبادة نفعية، كل ما نريده منها الماديات، بل تكون أعيننا نحو هذا المجد.

    والمجد الذي كان للمسيح ويطلبه هنا هو مستحق لأنه غلب كإنسان فكان بلا خطية على الأرض ثم غلب الموت بصليبه (يو33:16). وبهذه الغلبة دخل لقدس الأقداس عند الآب ليحملنا فيه. هو رئيس كهنتنا الذي يدخل لقدس الأقداس وحده، لكن رئيس الكهنة اليهودي كان يدخل وحده، ومسيحنا دخل وحده ليتمجد الآن. ولكن ذلك لحساب الكنيسة التي يطلب المسيح لها المجد (22:17). وهذا العمل الذي عمله المسيح كان ليستعلن لنا الله، فنعرفه فتكون لنا حياة (آية3) ولذلك يقول يوحنا "والحياة أظهرت" (1يو2:1).

    ملحوظة: إن كان المسيح يصلي لينصره الآب في معركة الصليب ويهزم أعداءه (الشيطان/ الموت/ الخطية) ألا يجب أن نصلي نحن قبل البدء في أي عمل وفي بداية كل يوم بل ودائماً وبلا إنقطاع.

    

    آية (2): "إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية لكل من أعطيته."

    المسيح سبق وطلب أن يتمجد في الآية السابقة. وهنا نرى لماذا طلب المسيح أن يتمجد بل وأن يتجسد ويصلب ويقوم ويصعد فيتمجد؟ فهو فعل كل هذا ليعطي حياة أبدية للبشر، جلس عن يمين الآب ليرسل الروح القدس المحيي ليقدس ويعطي حياة أبدية. وكل من له حياة أبدية يظل يمجد الآب والإبن هنا على الأرض وفي السماء وإلى الأبد فما يطلبه المسيح كغالب للموت وجالس عن يمين الآب هو لصالح البشر ليكون لهم حياة أبدية. والحياة الأبدية التي نأخذها هي حياة المسيح، نأخذها في المعمودية والروح القدس يعطينا هذه الحياة ويثبتنا فيها. ولنتأمل وضع آية (1) مع آية (2) مجد إبنك= إعطني نصرة على الشيطان والموت لماذا؟ لأعطي حياة للبشر= إذ أعطيته سلطاناً على كل جسد ليعطي حياة أبدية.

    سلطاناً على كل جسد= هذا القول يفيد ألوهية المسيح. فمن هو الذي له سلطان على كل البشر سوى الله (قارن مز2:65 مع يو35:3 + 22:5 + 3:13) كل بشر في (مزمور 2:65) أي كل جسد، فالله وحده له السلطان على كل جسد وهذا السلطان هو للمسيح. ولكن ما معنى أن الآب يعطي سلطاناً للإبن؟ أليس الآب والإبن واحداً؟ هذه الآية وردت بنفس المفهوم في (يو26:5) "لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته كذلك أعطى الإبن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته".والمعنى أنه طالما أن الإبن له حياة في ذاته فهو له السلطان أن يعطي هذه الحياة لمن يريد. ومن له سلطان أن يعطي حياة فهو الله. ولاحظ فالإبن له كل السلطان علينا اى يحيي أو يميت، ولكنه يريد أن يستخدم هذا السلطان في ان يعطينا حياته، وحياته هي حياة أبدية.

    ولكن لنفهم معنى الآية. فالآب يريد والإبن والروح القدس ينفذان إرادة الآب، يترجمان إرادة الآب إلى فعل. هنا نعود للآية الأولى في الإنجيل (يو1:1) فنجد الإنجيل الفرنسي يترجم "الكلمة"  (VERBE) أي فعل. فالإبن يترجم إرادة الآب إلى فعل. ويكون المعنى أنه في توزيع العمل داخل الثالوث، صار للابن حياة في ذاته ويعطيها لمن يشاء وبهذا يترجم إرادة الآب في أن يحيا الإنسان. الآب هو طاقة الحياة والإبن ينفذ ويفعل ويترجم إرادة الآب في أنه يعطي حياة لمن يريد، فهذا في سلطانه.

    ولكن الإبن لأنه مولود من الآب فهو ينسب السلطان للآب المولود منه. ولكن إذا وضعنا أمامنا الآيات الأخرى "أنا في الآب والآب فيّ" (يو38:10). "أنا والآب واحد" (يو30:10) "كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي" (يو10:17). نفهم أن الإبن له نفس السلطان. فالسلطان ليس من مصدر خارجي لأن الإبن واحد مع الآب في الطبيعة الإلهية. ولكنه يقول هذا لأنه قبل في طاعة أن ينفذ إرادة الآب ليتمم خلاصنا ومصالحتنا معه. فهو هنا يتكلم كمنفذ لإرادة الآب. هذه العبارة تماثل "كل ما أراني الآب أفعله" (يو19:5-21). وتماثل أيضاً "وأعطاه سلطاناً أن يدين" (يو27:5). هذه عن الأفعال. وأما عن الأقوال فيقول "كما أسمع أدين. . أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً (يو30:5). فهنا تعني تطابق الإرادة، فهو لا يقدر أن يفعل إلاّ ما يريده الآب فإرادتهما واحدة متطابقة لكن الآب يريد والإبن يفعل. وأيضاً "وأنا ما سمعته منه فهذا أقوله للعالم" (يو26:8). وقيل هذا عن الروح القدس "لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية" (يو13:16). وحين لا يريد الآب إعلان الساعة فالإبن لا يعلنها ويقول وحتى الإبن لا يعرف. ويكون المقصود أنه لن يفعل فهو لا يفعل (أي لن يعلن) إلاّ ما يريده الآب. فالآب له الإرادة والإبن له الفعل.

    لكل من أعطيته= سبق ورأينا أن المسيح له سلطان أن يعطي حياة أبدية ولكننا هنا نراها مقصورة على من أعطاهم الآب للابن فقط.. فهل هناك تضاد في المعنى؟ أو هل الآب قَيَّدَ حرية المسيح مرة أخرى في سلطانه المطلق على البشر في أن يعطيهم حياة أبدية؟ العالم كله للآب. ومن أعطاهم الآب للابن هم من آمنوا وإعتمدوا فصاروا جزءاً من جسده.

    لنفهم الإجابة عن هذه التساؤلات نراجع الآيات (يو21:5-30). وفيها نرى أن المسيح إمّا يهب حياة أبدية لمن يؤمن أو يُدين من لم يؤمنوا. فمن الذي سيعطي له الآب حياة أبدية؟.. هو من يقبل المسيح ويؤمن به. وأمّا من يرفض الحياة الأبدية التي يقدمها الآب برفضه للمسيح يكون سلطان المسيح عليه هنا للدينونة. فالمسيح له سلطان على كل جسد إمّا بإعطائه حياة أبدية أو بدينونته. المسيح يعطي بالفعل والآب يعطي بالمشيئة والإختيار ويستحيل فصل الفعل عن المشيئة المتممة له ولا المشيئة عن الفعل. ونرى هنا أن كلمة كل ترددت مرتين الأولى تشير لسلطان المسيح على كل البشر والثانية تشير للمؤمنين الذين هم خاصة المسيح (14:10).

    وهنا سؤال إذا كان الإبن له حياة في ذاته وله سلطان أن يهب هذه الحياة لمن يشاء، فلماذا يقول أن الآب أعطاه هذا؟ لماذا لم يقل أنا لي سلطان وسأعطيكم حياة؟ الإجابة ببساطة أن المسيح تجسد ليستعلن لنا حب الآب وإرادة الآب نحونا. بالإضافة إلى أن التلاميذ حتى الآن لا يعرفون بالضبط من هو المسيح وأنه هو يهوه بنفسه. لذلك فالمسيح لا يقول ما يعثرهم.

    

    آية (3): "وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته."

    هنا يُعرِّف المسيح الحياة الأبدية.. وهي أن نعرف الله الآب والمسيح يسوع. والمسيح هو القيامة والحياة (يو25:11). والمسيح له الحياة في ذاته مثل الآب وهو يحيي من يشاء (21:5، 26) ولأنه تجسد فهو أعطى العالم هذه الحياة بتجسده (37:6) وبالذات لأخصائه (28:10) وللذين يسمعونه ويدخل صوته إلى أعماق قلوبهم (24:5). فالمسيح هو الحياة أي قوة فعّالة محيية. وهو يعطينا هذا ليقدمنا لله أبيه (6:14) والوسائل التي إستودعها سر الحياة هي في المعمودية (5:3) وفيها نموت ونقوم لنحيا معه إذ نتحد به (رو3:6-5) والإفخارستيا (35:6، 48) وفي كلامه المحيي (63:6، 68). وفي الإيمان (37:7) وفي (63:6، 68). نرى أن كلام الله محيي (قارن مع مت 4:4). وهنا نرى الرابطة بين الحياة والمعرفة. فكلام الله الذي أوحى به الروح القدس (لكل من كتب الكتاب المقدس) له القدرة أن يحيي ويلدنا من جديد (1بط23:1). وهذه أهمية دراسة الكتاب المقدس لذلك يقول أحد الآباء أن الكتاب المقدس هو كلمة الله والمسيح هو كلمة الله.. لذلك فحينما نتأمل في الكتاب المقدس نرى صورة المسيح فنعرفه ونحبه ويتحول الحب إلى فرح.

 
    الحياة والنور

    المسيح هو الحياة. وهو قال "أنا هو النور" (12:8). وفي (4:1) نسمع أن الحياة كانت نور الناس. فمن يعطيه المسيح حياته يدخل نوره إلى قلبه فيفتح وعيه فيدرك الله ويعرفه ويعيش في حضرته (1يو1:1-5). والعقل لا يمكنه إدراك هذه الحياة الأبدية، فالعقل لا يُدْرِكْ سوى الملموسات بالحواس الخارجية. ولكن الروح القدس المعطي لنا يعيننا على أن ندركها هنا إدراكاً جزئياً بإستعلان يأتي من فوق، من خارج الكيان الإنساني (1كو9:2-12). هنا نرى أن الروح القدس يقود عقل الإنسان فيدرك ما لا يمكنه إدراكه وحدهُ. بل الروح القدس يقود الحياة كلها، فكر الإنسان وعمله ليكون بحسب مشيئة الله سواء بالفكر أو بالعمل ليكون الله غاية كل شيء. ولأن الحياة هي حياة المسيح والمسيح لن يموت ثانية فنحن صارت لنا حياة أبدية (رو9:6). وسمات هذه الحياة الأبدية أن يتذوق فيها الإنسان لذة الفرح الروحي والسلام الذي يعطيه المسيح الذي يفوق كل عقل (لذلك أطلق أباء اليهود على مجد الله الذي يظهر من بين كاروبي تابوت العهد لفظ شكينة وهي من السكينة والسلام الذي يملأ القلب حين يرى مجد الله) ولكن مهما كان السلام والفرح الذي نتذوقه هنا فهو كسبق مذاق، كعربون لما سنحصل عليه من فرح أبدي، هو عربون الملء الذي سنحصل عليه. ونلاحظ أنه كلما عرفنا شيئاً عن الله نفرح. فهل يمكن للإنسان أن يعرف الله بالكمال والتمام حتى في الأبدية؟ الله غير متناهي والإنسان حتى في الأبدية سيظل محدوداً غير قادر أن يدرك الله ويعرفه تماماً. لكن الله سيكشف له كل يوم جديداً فيفرح إلى درجة أنه لا يستطيع أن يفرح أكثر لمحدوديته، فيعطيه الله إتساعاً أكثر.. فيدرك ويعرف أكثر.. وهكذا. وهذا لن ينتهي فالله غير متناهي وهكذا نستمر للأبد نعرف شيئاً جديداً عن الله فنفرح ويزداد فرحنا للأبد. من صارت حواسه الروحية مفتوحة فهو في نظر الله حي. ومن حواسه مفتوحة يعرف الله. فمن يعرف الله إذاً هو الحي. ومن لا يدرك الله هو ميت. والحواس الروحية تبدأ تنفتح في سر المعمودية والميرون. فالمعمودية تعطي إستنارة والروح القدس يدرب الحواس الروحية (عب14:5) ومن يبدأ هذا الطريق يبدأ طريق الفرح الروحي وإدراك السماويات ومعرفة الله. هذه تبدأ لغير المؤمن عن طريق الأسرار. ولاحظ فالمعمودية تعطينا أن تكون لنا حياة المسيح الأبدية والروح القدس الذي يسكن فينا بسر الميرون يثبتنا في هذه الحياة.

    أما المؤمن فيبدأ طريق الحياة الأبدية أي معرفة الله التي تعطي هذا الفرح هنا على الأرض حينما يقدم توبة حقيقية ويعطي للروح القدس أن يقود حياته ولا يقاومه أو يحزنه. ويكون هذا بالنسبة للمؤمن كأنه يولد من جديد فالتوبة يسميها الآباء معمودية ثانية. والروح يقود المؤمن التائب ويرتقي بأفكاره وأعماله كأنه وُلِدَ من جديد. فالخطية تغلق الحواس الروحية. وبهذا نفهم معنى الحياة الأبدية التي يريد المسيح أن يعطيها لنا (آية2) وهي أن ندرك من هو الله بحواس روحية مفتوحة.

    وفي مقابل الحياة الأبدية التي يحياها المؤمن التائب يحيا الآخرين في حياة وهمية في لذات مؤقتة مخادعة للحظات تنتهي ويعودوا لكآبتهم وأحزانهم. أمّا حياة المؤمن الأبدية التي يبدأها من هنا في عشرة المسيح فهي حياة الفرح الحقيقي والسلام الحقيقي. بل أن كل من تذوق لذة الفرح الروحي والسلام الذي يعطيه المسيح عاش هذه الأبدية. هو ربما يتذوقها في دراسته للكتاب المقدس أو في قداس أو في الصلاة. وهذه اللحظات التي يتذوق فيها الإنسان لذة الفرح الروحي تعطيه قوة للصمود في وجه الضيقات وآلام هذا العالم. بل يحيا مشتاقاً لحياة ملء الفرح في الأبدية (في23:1).  أما من يعيش على ملذات العالم المظلمة لا يعرف سواها فقد إختار طريق الموت.

     

    أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح= المسيح يعطي الحياة بالفعل والآب يعطي الحياة بالمشيئة. فالآب والإبن يشتركان في إعطاء الحياة الأبدية. وعلى ذلك يتحتم أن تكون الحياة الأبدية هي معرفة الآب والإبن معاً. وإدراك سر الله والخلاص وإدراك محبة الله الآب الذي بذل ابنه وإدراك محبة الإبن الذي قدَّم ذاته في حب يسمو عن التعبير. وهذه العبارة تشير للمساواة بين الآب والإبن. فهي إذاً برهان على لاهوت المسيح فمعرفة الآب موازية لمعرفة يسوع المسيح. ونلاحظ قوله يسوع (أي المخلص) المسيح وهذه وظيفته بإعتباره الممسوح من الله بالروح القدس ليكون رئيساً وملكاً على كنيسته ورئيس كهنة يقدم ذبيحة نفسه ليقربنا لله أبيه. وحدك= أي دون الآلهة الوثنية وإبليس أو كل ما يؤلهه الإنسان في حياته كالذات والشهوات. ومعلمنا يوحنا يصف هذه الحياة الأبدية بأنها عشرة مع الآب والإبن (1يو1:1-4) وفي هذه الآيات نرى معلمنا يوحنا يكلمنا عن المسيح الذي رآه وعرفه ولمسه. فيكف نرى المسيح ونلمسه ونعرفه؟ هذا يناله من يحبه ويؤمن به.. وكيف نصل لدرجة الحب؟.. هذا يأتي من العشرة مع المسيح في صلواتنا ودراستنا للكتاب المقدس وحضور القداسات والتناول. ومن أحب المسيح وقال مع عروس النشيد "أنا لحبيبي وحبيبي لي" يُعلِنْ له المسيح ذاته. والمحبة حياة فالله محبة. والتعرف على المسيح هو هو التعرف على الآب لأن رسالة المسيح هي إستعلان الآب الذي فيه (يو9:14). ومعرفة الآب والإبن هي بعينها شركة مع الآب والإبن. وقول يوحنا "فإن الحياة أظهرت" فهذا إشارة للتجسد الذي به عرفنا الآب والإبن.

    الإله الحقيقي وحدك= الإله الحقيقي هو الذي يخلق ثم يحافظ على حياة مخلوقاته، يدبر ويعول ويعطيهم فرحاً حقيقياً. ومن إكتشف هذه الحقيقة هو إنسان له حياة، فالله الذي آمن به يكفل له حياة كريمة على الأرض وحياة أبدية بعد الموت. لكن هناك آلهة أخرى يخلقها الإنسان ويظن أنها حقيقية وهي غير ذلك، كالمال مثلاً الذي لا يستطيع هذا ولا علاقة له بالأبدية، والملذات يظنها الإنسان أنها تعطيه فرحاً حقيقياً وهذا وهم.. هذه آلهة غير حقيقية فهي لا تعطي حياة أبدية، بل تعطي موتاً.

      هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك

    كلمة يعرف في الكتاب المقدس تشير للإتحاد

    1. إتحاد جسد بجسد:- "وعرف آدم حواء امرأته فحبلت وولدت قايين" (تك1:4) وهذا لأنهما صارا جسداً واحداً "يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بإمرأته ويكونان جسداً واحداً" (تك24:2)

    2. إتحاد على مستوى اللاهوت:- وأيضاً يقال "ليس أحد يعرف من هو الإبن إلاّ الآب ولا من هو الآب إلاّ الإبن ومن أراد الإبن أن يعلن له" (لو22:10). ففي هذه نرى الآب يعرف الإبن والإبن يعرف الآب. لأن الآب والإبن واحد (يو30:10) والآب في الإبن والإبن في الآب (يو38:10). وبهذا نفهم أن المعرفة إتحاد.

    3. إتحاد المسيح بنا:- ولأن المسيح يقول "ومن أراد الإبن أن يعلن له" أي من أراد الإبن أن يعلن له الآب ويعلن له الإبن، أي يعطيه أن يعرف الآب والإبن، وفي هذه المعرفة إتحاد والإتحاد يعني حياة. فالإتحاد مع المسيح يعني أن المسيح يعطيني حياته (في21:1 + غل20:2) وهذه الحياة حياة أبدية، فالمسيح إذ قام "لا يسود عليه الموت بعد" (رو9:6). وبهذا نفهم أن الحياة الأبدية التي نحصل عليها هي ثمرة لإتحاد المسيح بنا.

    وهذا الثبات في المسيح أو الإتحاد ينمو وكلما حدث النمو تحدث معرفة المسيح، ولكنها ليست معرفة من خارج، كما يعرف إنساناً إنسان آخر، بل معرفة من خلال الإتحاد "وأوجد فيه.. لأعرفه" (في9:3، 10).  فكلما زاد الإتحاد تنمو المعرفة ويزداد الوضوح، وضوح الرؤية والإستعلان. فالمعرفة هي معرفة إتحاد وحب، وإدراك لمحبة الله العجيبة لنا، وبالتالي مبادلته حباً بحب. فالمعرفة هي حالة حب حقيقي مع الله، وتذوق وإختبار لمحبة الله. فالله محبة والله حياة فمن أدرك وتذوق المحبة صارت له حياة.

    والرؤية هنا على الأرض محدودة. فالقداس الغريغوري وصف الله هكذا "غير الزمني، غير المحدود.." لكن ما هو الله بالضبط فهذا لا يعبر عنه بالضبط على الأرض.

    والسماء فيها إتحاد على مستوى أكبر بكثير من الأرض تم التعبير عنه بالعرس (رؤ7:19) وهناك على هذا المستوى نعرف الله (2كو18:3 + 1كو12:13) هذا الإتحاد هو ما عبر عنه المسيح بقوله "أشربه معكم جديداً في ملكوت أبي" (مت29:26) فهو إتحاد على مستوى جديد، ومعرفة على مستوى "وجهاً لوجه" على مستوى زيجي والمعرفة إتحاد، والإتحاد حياة أبدية. والحياة الأبدية مجد وفرح أبدي بمعرفة هذا الذي أحبنا كل هذا الحب وأعد لنا كل هذا المجد، ويحملنا فيه إليه.

    أنت الإله الحقيقي وحدك= هنا المسيح يوجه كلامه للآب. وكلمة وحدك عائدة على الله مثلث الأقانيم. ونحن حين نوجه كلامنا للمسيح نقول له أيضاً أنت الإله الحقيقي، لأن صفة الألوهة هي للآب كما للإبن. والله واحد غير منقسم ولا منفصل. الله هو الحق والعالم وما فيه باطل ومن يعرف الحق يختاره فيحيا ومن يختار الباطل يموت ويستعبد فكلمة حقيقي تعني الثابت غير المتغير، أما العالم فسيفنى وهو متغير ومخادع. وقوله وحدك= فالوثنيين يعبدون آلهة أخرى. وهناك من يعبد المال مثلاً أو الشهوات أو ذاته.. الخ.

    ويسوع المسيح الذي أرسلته= هذه إشارة لأن الآب لم يُعْرَفْ إلاّ بتجسد المسيح الذي أعلن الآب. وكما أن الآب يمجد الإبن والإبن يمجد الآب كذلك الإبن يستعلن الآب والآب يستعلن الإبن بالروح القدس الذي أرسله. لذلك يستحيل معرفة أحدهما بدون الآخر. ولا يمكن فصل الإرادة (الآب) عن الفعل (الإبن). محبة الآب لا يمكن أن تصل إلينا إلاّ بيسوع المسيح.

    
    الآيات (4-5): "أنا مجدتك على الأرض العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته. والآن مجدني أنت أيها  الآب عند ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم."

    هنا نرى معنى أن يعرفوك (آية3). فحينما أكمل المسيح عمله الذي أعطاه له الآب، إستعلنت حقيقة المسيح الإلهية وكونه واحد مع الآب. وأن عمله أتمه بالفداء والقيامة ومازال يكمله بشفاعته الكفارية عنا في السماء. والآن= بعد أن أكملت العمل.

    والمسيح في آية (1) يقول "مجد إبنك" وهنا يقول مجدني أنت. فما الفرق بينهما؟ في آية (1) كان المسيح يطلب تدخل الآب لتكميل باقي المهمة العظمى بكل ما تشمله من صلب وإهانة ثم بقيامة ومجد. يطلب المسيح أن يسانده الآب، يساند ناسوته ليكمل عمل الصليب الذي به يتمجد الإبن إذ يكمل إنتصاره على قوات الظلمة والموت. أمّا هنا فهو يطلب المجد المستحق عن العمل الذي سيكمله. والآب سيمجده بإعلان بنوته له وإستعلان لاهوته وأنهما واحد. ونلاحظ أن المسيح لا يطلب المجد للاهوته بل لناسوته أي الجسد الذي أخذه من الإنسان. فلاهوته لم يفارقه مجده أبداً، لكنه يطلب المجد للطبيعة البشرية. وهذا الطلب هو عمل عظيم من المسيح لحساب البشر (قارن مع آية 22). هذه هي شفاعته وإستحقاق ذبيحة طاعته. هذا هو جوهر الفداء والخلاص للإنسان الذي ينتهي بالمجد (راجع أف5:2، 6 + 19:3 + في21:3 + كو12:1، 13 + كو4:3 + 2تس14:2 + 1بط10:5 + عب10:2 + رو17:8 + يو24:17) هذه شركة في المجد البنوي لله. وقوله الذي أعطيتني يشير للمجد الذي حازه المسيح كابن الإنسان لحساب الإنسان (يو36:13) ففدائه أعطى للإنسان مجداً وحياة أبدية وهذه إرادة الآب "الذي يريد أن الجميع يخلصون" (1تي4:2). فالإبن هو الفعل، يفعل ما يريده الآب. ونلاحظ أن من له الحياة الأبدية وعرف الله فهو في مجد. وهذا ما يريده المسيح للمؤمنين.

    أنا مجدتك على الأرض= باستعلانه للآب ومحبته للبشر وأبوته لهم (يو18:1) وكان ذلك بأن تمم وأكمل  عمل الفداء. قد أكملته= تفيد الكمال فهو تمم العمل بكمال في طاعته للآب. وكان طعام المسيح أن يتمم ويصنع مشيئة الآب (يو34:4). عند ذاتك= "عند" يمكن ترجمتها أيضاً "مع" وتفيد معنى المجد الواحد للذات الإلهية، مجد الآب ومجد الإبن فالإبن كائن مع الآب، وتفيد معنى الوحدة القائمة بالمجد في الله بين الآب والإبن. وتفسير هذه العبارة نجده في (يو1:1، 18) فالكلمة كان عند الله وهو الإبن الوحيد الذي في حضن الآب. وبعد أن أخلى الإبن ذاته من مجده آن الآوان أن يدخل الإبن بالجسد إلى أحضان الآب كعودة الذات لذاتها بكل المجد الذي كان له وعنده ومعه قبل كون العالم. وعند ذاتك تفهم أيضاً "في ذاتك" فالمسيح له نفس المجد الذي للآب باللاهوت. وقد صار نفس المجد للناسوت عندما "جلس عن يمين أبيه" الإبن هنا يرى ما بعد الصليب، هو يرى الصليب كأنه حدث ويرى ما سيحدث بعده من قيامة وجلوس في العرش.

    بالمجد الذي كان لي= المسيح كان له المجد دائماً منذ الأزل أي أن مجد الآب هو نفس مجد الإبن ولو أنه أخلى ذاته منه في أيام تجسده. وكان إخلاء المسيح لذاته يعني أنه ظهر في صورة لا تُقْبَلْ (أش2:53) ولا يمكن أن يظهر في مجد، فهي ستكون مهمة عار وذل ومهانة وقبول للموت. والمسيح الآن يطلب ما بعد ذلك من إستعلان لاهوته ووحدته مع الآب. وهذا المجد الذي يطلبه هو ليس في إحتياج إليه بل هو مجده. لكنه يطلبه لجسده أي الكنيسة. فالإخلاء يعني الإخفاء عن أعين الناس ومدارك الشيطان والآن المسيح يطلب إستعلان ما هو له عند ذات الآب. قبل كون العالم= قبل كون العالم والخليقة لم يكن هناك سوى الله. وهذه العبارة تصريح واضح بلاهوته الازلى.

    مجدني= هنا الناسوت يتكلم. بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم= هذا المجد هو مجد لاهوت الإبن وهو مجد أزلي. والمسيح يطلب أن الناسوت يكون له نفس مجد  اللاهوت وذلك لحساب الكنيسة جسده. وهذا نراه بوضوح في آية (يو22:17)

    آية (6): "أنا أظهرت اسمك للناس الذين أعطيتني من العالم كانوا لك وأعطيتهم لي وقد حفظوا كلامك."
    أنا أظهرت إسمك= توازي أنا مجدتك (آية4). وهي تعني أظهرت كل صفاتك ومحبتك الأبوية للمؤمنين وكل إمكانياتك وقدراتك. وهذه المعرفة هي حياة (آية 3). وهذا هو العمل الذي أكمله المسيح بطاعته للآب حتى الصليب وبأعماله العجيبة وتعاليمه التي أظهرت أن الآب يعمل فيه. فاسم الله يشير للحضور الإلهي ذاته. وهذا معنى ترديد صلاة يسوع للشعور بحضرته. فالاسم هو إشارة للكيان كله. وهذا ما تعنيه الكنيسة إذ تبدأ كل صلاة أو اجتماع "باسم الآب والإبن.." ليحل الله وسطنا ونسمع صوته.

    الذين أعطيتني= ليس كل الناس قد قبلوا هذا الإستعلان. والذين أعطيتني تشير لمن إنفتحت أعينهم وقبلوا رسالة المسيح، هؤلاء الذين إجتذبهم الآب (يو44:6، 65) وهذا الإختيار يُنسب أيضاً للمسيح (يو32:12 + 16:15). وواضح أن هناك من يرفض هذا الإختيار كيهوذا. فحرية القبول مكفولة للجميع. الذين أعطيتني= التلاميذ وكل المؤمنين عبر العصور. كانوا لك= [1] هؤلاء التلاميذ كانوا يعرفونك ويؤمنون بك مثل كل اليهود ومثل شاول الطرسوسي وكان لهم علاقة معك لا يعرفها سواك. [2] وقد تفهم أن الله خلق العالم كله، وأن العالم كله كان لله بحسب الخلق الأول، والله له سلطان على العالم كله وهو الذي يعتني بكل خليقته. الكل خاصة الآب. وأعطيتهم لي= الله حينما رأى إستقامة قلب التلاميذ وأنهم أرضاً خصبة وأنهم سرعان ما آمنوا به سلمهم للمسيح ليكمل خلاصهم وفداءهم. وتفهم عن الخلق الثاني الذي فيه تجددت بنويتنا "إذ ليس بغيره الخلاص". فإنتقلوا بذلك من الموت إلى الحياة. فالخليقة كانت كلها لله ولكنها ضلت وأتى الإبن ليعيد الخليقة لله. وذلك بأن وحدنا فيه فصرنا "أعضاء جسمه من لحمه ومن عظامه" (أف30:5). وهذا نراه بوضوح في

    (اف 2: 10 ) نحن عمله (الله خلقنا =كانوا لك)...مخلوقين في المسيح يسوع (كخليقة جديدة = اعطيتهم لى)

    حفظوا كلامك= كلمة حفظ هنا تعني العناية مع السهر والواسطة الوحيدة لحفظ كلمة الله هي في إطاعتها والعمل بها. وعلينا أن نحفظ كلمة الله ككنز في قلوبنا ونسهر عليها ونقبلها ونهتم بتنفيذها. وحفظ كلمة الله هو التلمذة الحقيقية لله، ومن يتأمل فيها يكتشف المسيح كلمة الله. لذلك فالتلاميذ عرفوا المسيح وآمنوا به لأنهم حفظوا وصايا الله. ولكن قول السيد المسيح هنا حفظوا كلامك تعنى حفظوا كلامك بأن آمنوا بي وصدقوني. وهذا يفهم من الآيات (7، 8). وبهذا نفهم أن المسيح أظهر الآب (اسم الآب):-

    1.            للذين يحفظون الوصايا.

    2.   آمنوا بالمسيح "علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك". عموماً كل من حفظ الوصايا لابد وسيعرف المسيح إذ ستكون عيناه مفتوحتين بسبب النقاوة.

    3.            علموا "أني خرجت من عندك" (فهموا سر التجسد)= المسيح هو الله المتجسد.

    إذاً المسيح كون كنيسته من الذين حفظوا وصايا الله فعرفوا الله. وكنيسة المسيح هذه هي جسده. وهؤلاء أي جسد المسيح هم من عرفوا الله ومن عرف الله صار حياً (آية3).

    آية (7): "والآن علموا أن كل ما أعطيتني هو من عندك."

    المسيح هنا يشرح ثمرة حفظهم لأقوال الله، كلمة الآب. فهم أدركوا بعيون مفتوحة أن المسيح جاء ليستعلن الآب قولاً وفعلاً وأدركوا العلاقة بين المسيح والآب، وصدقوا أن المسيح جاء من عند الآب. وأن كل أقواله وأعماله هي من عند الآب، بل أن كل أعمال التلاميذ هي هبات من عند الآب. وأن كل ما للمسيح هو من الآب. إذاً من يحفظ كلام الله، يدرك من هو المسيح ويقبله ويؤمن إذ يعرفه فتكون له حياة. فلأنهم حفظوا كلام الله أي أطاعوه ونفذوه، عرفوا الله. فلما ظهر المسيح أمامهم عرفوه لأنه صورة الله الذي عرفوه.

    الآن= وهو مقبل إلى الموت. فبينما يفصل الموت بين إنسان وإنسان إلاّ أنه بموت المسيح ستزداد الرابطة بينه وبين تلاميذه وسيعرفونه تماماً كمخلص وإله فادي. وبينما أن صلب المسيح سيجعلهم يشكون ولكن لمدة قليلة ثم يجعلهم الروح يفهمون. هذه الآية وما بعدها يشرح كيف كانوا للآب وصاروا للمسيح (آية6). هم عرفوا الآب إذ حفظوا أقواله. ولما رأوا المسيح عرفوه إذ هو صورة للآب الذي يعرفونه فآمنوا بالمسيح. وهذا هو ما قاله في آية (3) أن هؤلاء لهم الحياة إذ عرفوا الآب ويسوع المسيح.

    آية (8): "لأن الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم وهم قبلوا وعلموا يقينا أني خرجت من عندك وآمنوا    انك أنت أرسلتني."

    الكلام الذي أعطيتني قد أعطيتهم= هذه الآية تساوي "كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في إبنه" (عب2:1)

    نلاحظ هنا درجات الإيمان:

    1-    قبلوا= رحبوا بالمسيح قلبياً، تشير لفرحهم ومشاعرهم تجاهه، مثل هذا يطيع بدون معرفة كثيرة ثم تبدأ المعرفة.

    2-    علموا= هنا بدأوا التمييز والحكم بالعقل فحكموا على كلام المسيح أنه سماوي. هنا بدأت المعرفة. قبول المسيح أعطاهم إستنارة بها عرفوا المسيح وأنه من عند الله. كما قال المسيح لبطرس "أبي أعلن لك"

    3-    آمنوا= هنا كان القرار والإرادة بعزيمة ثابتة ملتهبة بنار القلب وملهمة بنور العقل. هنا إيمان بالعمل الذي جاء من أجله المسيح من عند الآب. ومن هو المسيح. هذا إيمان بوعي.

    وهنا نرى التلاميذ وقد وصلوا لدرجة اليقين في معرفتهم للمسيح. فالمسيح أعطاهم ما إستلمه من الآب وكان قبولهم للكلمة هو سر إنفتاح بصيرتهم على المسيح ومعرفتهم له إلى درجة اليقين= علموا يقيناً= والكلمة الأصلية تفيد معنى أنهم علموا حقاً وبالحقيقة. فالإنسان قد يكون على يقين من أمر ما ولكنه ليس الحق بالضرورة. والحق هو الله. وقبول الحق لا يأتي بالفهم والمناقشة بل بالطاعة. لذلك كل من سمع وصايا الله وأطاعها ونفذها سيكتشف سهولتها وجمالها مهما بلغت في مظهرها الخارجي من صعوبة ظاهرية في التنفيذ.

    خرجت= تفيد التجسد. أرسلتني= تفيد العمل الذي أرسل من أجله وهو الفداء والمسيح سيبني على هذه الكلمات ما سيأتي فهو ليس من العالم لذلك رفضه العالم وصلبه. ولذلك كل من يقبله ويؤمن به ويتحد به وينضم إليه سيصير هو أيضاً ليس من العالم وسيضطهده العالم وهذا ما حدث مع المسيح وما سيحدث للتلاميذ (يو18:15-21 + 1يو13:3 + 1يو5:4، 6).

    

    آية (9): "من أجلهم أنا اسأل لست اسأل من اجل العالم بل من اجل الذين أعطيتني لأنهم لك."

    أنا أسأل= في صلاتي الشفاعية هذه. في هذه الآية يسأل عن التلاميذ الذين عرفوه وآمنوا به. ثم في آية (20) يسأل عن كل المؤمنين. لست أسأل من أجل العالم= المسيح يسأل ويشفع عن الذين كانوا للآب وأعطاهم الآب له ليكمل خلاصهم (يو24:10-26 + أر16:7 + يو42:8-44). وليس من أجل من لازال يحيا في شره غير مؤمن بالمسيح. هؤلاء يسميهم العالم. فالمسيح حقاً مات من أجل كل العالم ولكن ليس كل العالم قد تمتع بالغفران وأنهم أصبحوا من جسد المسيح. والمسيح صلي على الصليب "يا أبتاه إغفر لهم".  لكن من تاب وآمن هو من غفر له. فكيف يصلي المسيح عن من لا يزال في شره لكي يحفظه الآب، فهو يطلب أولاً إيمانه ثم يطلب أن يحفظه الآب. المسيح هنا يطلب المجد لمن آمن. فهل يطلب مجداً لمن من لا يزال في شره أو لمن من لا يزال غير مؤمن. لأنهم لك= هنا نرى معنى المحبة بين المسيح والآب فهو تمم الفداء ويشفع فيمن هم للآب حباً وطاعة للآب، فهذه إرادة الآب خلاصهم. لذلك أرسل تلاميذه ليكرزوا به ومن يؤمن سيترك العالم فتكون هذه الصلاة من أجله. وصلاة المسيح المسموعة هذه وأنه يطلب لأجل تلاميذه الذين آمنوا به هي من أجل  أن يعرفوا محبته لهم.

    

    آية (10): "وكل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي وأنا ممجد فيهم."

    كل ما هو لك فهو لي وكل ما هو لي فهو لك= نرى هنا الآب والإبن على مستوى واحد فالمؤمنون هم تابعين للآب بقدر ما هم تابعون للإبن، أو أن الإيمان بالمسيح يعتبر تأكيداً لتبعية المؤمن لله الآب. المسيح يقول هذا حتى لا يفهموا أنه أخذ شيئاً حديثاً لم يكن له من قبل لأنه قال "الذين أعطيتني" بل هم له كما للآب. ولكن هم صاروا جسده، صاروا من لحمه ومن عظامه. وكونهم صاروا جسده فهذا لا ينهي علاقتهم بالآب. فهو والآب واحد. وكل ما للآب هو للابن وكل ما للابن هو للآب. ولماذا يسأل المسيح عنهم؟

    1)            لأنهم لك= هم أولادك وخاصتك وأنت مهتم بهم.

    2)   كل ما هو لي فهو لك= هم أيضاً للمسيح، سعي المسيح لأجل خلاصهم. ولقد آمنوا بالله وبالمسيح.

    3)            وأنا ممجد فيهم= المسيح من هو وعلاقته بالآب هم سيعلنوها للعالم كله.

    4)            ولست أنا بعد في العالم= (آية11) المسيح يطمئنهم أن تركه للعالم لن يسبب لهم أي ضرر.

    ونلاحظ أن في إمكان أي مؤمن أن يقول لله كل ما هو لي فهو لك ونشترك مع المسيح في هذه العبارة. أمّا الشق الثاني.. كل ما هو لك فهو لي= فهو قول لا يجرؤ ملاك أو إنسان، بل ولا أي مخلوق أن يقوله. هذا الكلام لا يقوله سوى الإبن الواحد مع الآب ولهم نفس الطبيعة والجوهر. وفيه تأكيد واضح للاهوته.

    

    وأنا ممجد فيهم= مجد الطبيب الماهر يظهر في شفاء مرضاه. ومجد المسيح ظهر في تجديد خليقة المؤمنين وفي ثمارهم. وتشير لأن صفات المسيح قد إنطبعت في تلاميذه "هم لبسوا المسيح" (رو14:13). فصار الناس يرون في تلاميذ المسيح صورة المسيح. فإيمانهم إذاً أبرز للناس مجده الإلهي. ولاحظ أن المسيح في محبته لهم لم يرى إنكارهم وضعفهم، فهو قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة مدخنة لا يطفئ، بل أقام منهم أعمدة الكنيسة. ونلاحظ أيضاً في هذه الآية أن الآب ممجد في التلاميذ فكل ما هو للابن هو للآب أيضاً، وهذا ما يشير إليه قول السيد المسيح "لكي يرى الناس أعمالكم الحسنة فيمجدوا أباكم.."

    

    آية (11): "ولست أنا بعد في العالم وأما هؤلاء فهم في العالم وأنا أتي إليك أيها الآب القدوس احفظهم  في اسمك الذين أعطيتني ليكونوا واحدا كما نحن."

    أتى الوقت الذي سيفارق المسيح تلاميذه ليذهب للسماء ويمارس عمله الشفاعي عنهم. وهنا نرى نموذج لهذا العمل الشفاعي. والمسيح يعرف أن للعالم قوة وإمكانية أن يبتلع تلاميذه بالشر المحيط والجذب العنيف والإغراء الذي له قوة شيطانية. والشيطان له وسيلتين يهاجم بها المؤمنين [1] الإغراء بملذات العالم [2] الآلام والإضطهاد. وهذا الأسلوب إتبعه مع الرب يسوع نفسه. ففي التجربة على الجبل بدأ بإغوائه بملذات العالم، فلما رفض هيج عليه اليهود ورؤساء كهنتهم والرومان. يتضح هذا أيضاً من (رؤ13) فالوحش الأول يستخدم العنف ضد الكنيسة والوحش الثاني يستخدم الخداع. ولكن هل حقاً سيترك المسيح العالم بعد صعوده؟ قطعاً لا. فوعده أنه معنا للأبد (مت20:28). فلماذا يقول هذا؟ التلاميذ الآن في حالة حزن إذ أنهم يشعرون أنه سيفارقهم، وهم حتى الآن لا يدركون من هو المسيح بالضبط. فهذه الصلاة لتعطيهم شعوراً بأن هناك حماية إلهية ستحيطهم حتى ولو فارقهم المسيح بالجسد، وهذا يتضح من آية (13). وهذا ما فعله من قبل حينما وعد بإرسال الروح القدس الذي من عند الآب ينبثق (يو26:15)

    أيها الآب القدوس= هذه الكلمات لم ترد في الكتاب المقدس سوى هنا، فالحل الوحيد أمام التجارب الشريرة هو الإلتجاء إلى قداسة الآب. فقداسة الآب هي حصن الذين في العاصفة معرضين للتهديد والإغراء من دنس العالم أو معرضين للإرتداد أمام ضغوط إضطهاد العالم فهي قوة تجذبنا فنترك الأنا وننجذب إلى الله فنصير واحداً. لأنه أمام قداسة الله يتضح زيف ملذات العالم، وأمام محبة الله نقدم حياتنا رخيصة إذا أُرْغِمنا على الإستشهاد. القداسة هي الإرتفاع والسمو عن الأرضيات بكل ما فيها. وقداسة الله هي قوة قادرة أن تحفظ أولاده من إغراءات وإضطهاد العالم. فهي قوة تجذبنا فنترك الأنا وننجذب لله فنصير واحداً لأننا أمام قداسة الله يتضح زيف ملذات العالم، فقداسة الآب هي الضمان الأوحد لقداسة المؤمنين. فقداسة الآب أي سموه ليست هي إنعزاله عن العالم بل قوة قادرة أن تجذب من يريد لينفصل وينعزل عن الشر الذي في العالم. وهنا يربط المسيح بين القداسة والوحدة. حيثما توجد القداسة يوجد الحب والوحدة، وحيثما توجد الخطية يوجد الشقاق والحسد. لذلك علمنا السيد أن نصلي هكذا "ليتقدس إسمك" فالإلتجاء إلى اسم الله القدوس ليتقدس في حياتنا وأفكارنا وعيوننا وقلوبنا وضمائرنا، هو قوة غالبة وحصن منيع "اسم الرب برج حصين يركض إليه الصديق ويتمنع" (أم10:18). "ليتقدس إسمك"= لتظهر قوة عملك في أن تجعلنا واحداً بالمحبة.

    إحفظهم في إسمك= الكتاب يستخدم اسم الله ليقول الله. ويكون المعنى إحفظهم فيك. واسم الآب يحمل معنى قوته وحكمته وقدراته ومحبته وقداسته وصفاته كلها ورحمته (وهذه قد أعلنها المسيح). وحفظهم في الاسم يراد به حفظهم ثابتين في دائرة هذا الحق المعلن متحصنين في ذات الله وفي شخصه. فالاسم هنا هو طاقة وقوة حفظ. إذاً هي قوة محبة الله التي تبطل الأنانية والغرور والذات ليكونوا واحداً، والحفظ يعني أن يشمل الآب التلاميذ بهذه الطاقة والقوة، فله قوة يجذب بها بعد أن يستعلن نفسه لهم ثم يحفظهم حتى لا يخرجوا خارجاً. ولذلك فمجرد النطق بالاسم (اسم الله) يدخلنا في مجال قوة عمله وكأنه هتاف بالدخول إلى حضرته. لذلك تفتتح كل صلاة باسم الآب والإبن والروح القدس. ومن هنا تأتي قوة صلاة يسوع. هنا نرى أن إسم   الله هو بيئة مقدسة محصنة يريد المسيح أن يحفظ تلاميذه داخلها فترتد عنهم سهام إبليس. اسم الله قوة تحيط بالإنسان وتحرره. فإذا شعرنا بروح يأس أو شهوة فلنردد اسم يسوع فهو قوة تعطي النصرة. ولأننا نفقد وحدتنا إذ نسعى وراء لذات العالم، فالرب يقول أنه أعطانا المجد (آية22). فمن له المجد، هل يخسر أخيه بسبب ملذات أرضية فانية. إذاً للحفاظ على وحدتنا [1] هناك قوة قداسة قادرة أن تحفظنا. [2] وعد بمجد يجعلنا نحتقر ملذات العالم.

    ليكونوا واحداً= (أف1:4-6) واحداً في المحبة والإرادة والغاية والفكر والاهتمامات والتسليم لله، وفي هذا فالآب والإبن واحد= الكنيسة هي الوجه الظاهر للملكوت، وملكوت الله منظم جداً وكل ما فيه مترابط بمحبة في وحدة وإنسجام مقدسين. ولذا فالمسيح يطلب أن تبعد الإنقسامات عن الكنيسة. فالإنقسامات هي حروب شيطانية تقسم جسد المسيح وكل مملكة تنقسم على ذاتها تخرب. والمسيح يريد أن تكون كنيسته صفاً واحداً وإرادة واحدة. وإذا تقدس الجميع بالقوة التي لاسم الآب، سيحفظهم الآب ويوحدهم كأعضاء لجسد المسيح. وهذه هي الكنيسة الواحدة الوحيدة المقدسة الجامعة الرسولية (أع42:2-47). وهذه الوحدة هي في جسد المسيح وكل مؤمن هو عضو في جسد المسيح له دوره ووظيفته وموهبته الخاصة بحيث يتكامل الجميع كجسد واحد (1كو1:12-30). وهذه الوحدة هي وحدة تقديس وطهارة فخارج القداسة والتقديس يوجد العالم. والقداسة في مفهومها هي إنفصال عن العالم. والوحدة التي ستجمع التلاميذ هي في إنفصالهم عن العالم بإنجذابهم المشترك نحو الآب وهذه هي القداسة. . وهذه لا تأتي إلاّ بالإلتصاق بالله في صلاة بلا إنقطاع ودراسة وتأمل في الكتاب المقدس. وهذه الوحدة قوتها من المسيح وفيه. وليست علاقات إجتماعية أو ما شابه بل هي مؤسسة على إتحاد بالمسيح. ولاحظ أن الشيطان يحارب هذه الوحدة ولا يطيقها. لكن اسم الآب قوة حفظ من تجارب العدو. كما نحن= المسيح في وحدة مع الآب وهو يطلب أن قوة الوحدة التي بينه وبين الآب تعمل في المؤمنين وتوحدهم. ويكون إتحادهم إنعكاس للوحدة والحب الكائنة بين الآب والإبن. وقوله كما نحن هو مشابهة في الصورة وليس في المقدار طبعاً. هو مشابهة في الحب فالآب في الإبن والإبن في الآب وهما واحد بالحب الذي هو طبيعة الله. ونحن نصير واحداً لو صارت لنا طبيعة المحبة مثل الله. والله القدوس بقوته مستعد أن يعطينا هذه المحبة فهل نقبل؟!. وقوله نحن يشير للتمايز بين الأقانيم فالآب غير الإبن.

    

    آية (12): "حين كنت معهم في العالم كنت احفظهم في اسمك الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم    أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب."
    بينما كان المسيح مع تلاميذه كانت القداسة والمحبة التي كانت في المسيح وتشع منه كانت تؤثر فيهم وكان يسهر عليهم بالتعليم فحماهم من جذب العالم وذلك بأن حصر قلوبهم في دائرة معرفة الآب. وكان ثمرة عمل المسيح أنه لم يهلك أحد منهم بل ظلوا محفوظين ومحروسين في اسم الآب وقوته. ما عدا يهوذا (يو70:6، 71) الذي إختار طريق الخيانة في مقابل كل ما أعطاه المسيح من إختيار وحب وتعليم. فالمسيح قدم لهم كل حماية مطلوبة حتى ليهوذا. لكن من يصر على الإنفصال عن المسيح لن يجبره المسيح على البقاء.

    إبن الهلاك= غالباً هي تسمية عبرية لمن إختار طريق الشر فيكون الهلاك مصيره ومثلها "إبن الموت" (1صم16:26) "وإبناً لجهنم" (مت15:23) "وأبناء المعصية" (أش4:57) "وأبناء الغضب" (أف3:2). وعكسهم "أولاد النور" (أف8:5) وكلمة ابن الهلاك استخدمت مرتين هنا في هذه الآية وعن المسيح الكاذب إنسان الخطية في (2تس3:2)، أو ما يسمى ضد المسيح. والهلاك يبدأ من وقت الإنفصال عن المسيح. إسمك الذين أعطيتني= المعنى أن المسيح كان يحفظهم بحماية إلهية يشير لها كلمة إسمك ولكن الآية في أصلها يمكن ترجمتها "إسمك الذي أعطيتني" والاسم الذي أخذه المسيح هو "يهوه" = أنا هو. والمعني أنني بإسمي وقدراتي الإلهية كنت أحفظهم. كنت أحفظهم في إسمك= في تواضع المسيح لم يقل أنا أحفظهم بقداستي بل بإسمك أيها الآب القدوس. فالإبن يشهد للآب والآب يشهد للإبن. والروح القدس يشهد للابن وهكذا.

    ليتم الكتاب= أي أن هلاك يهوذا جاء متفقاً مع النبوات أي بسابق العلم الإلهي ولكن الله كان قد وهبه حرية كاملة للإختيار (مز8:109 + مز9:41). وهناك سؤال فالآب أعطى التلاميذ للمسيح ليخلقهم خليقة جديدة فهل لم يكن الآب يدري أن منهم من سيخون والإجابة كامنة هنا في قوله ليتم الكتاب= فالله قطعاً كان يعلم والنبوات تشهد بذلك.

    

    آية (13): "أما الآن فأني آتى إليك وأتكلم بهذا في العالم ليكون لهم فرحي كاملاً فيهم."

    المسيح يتكلم وهو هنا على الأرض وهو متأهب أن يترك العالم. أتكلم بهذا في العالم ليسمعني التلاميذ الذين أنا معهم الآن في العالم. والمسيح يتكلم إلى الآب ليشعر تلاميذه أنهم في حضرة الآب محفوظون في اسمه وأن المسيح بدأ بالفداء ويحفظهم والآب سيكمل. وهو نفسه أي الإبن يشفع فيهم ليحفظهم الآب ومن هو محفوظ في اسم الآب فهو كأنه إنتقل من الموت إلى الحياة. وهذا ما يفرح المسيح أن الموت لم يعد له سلطان على تلاميذه، وأن العالم لم يعد له سلطان عليهم. وهذا ما يصلي المسيح لأجله أن يحفظهم الآب فيكون لهم حياة. وأن فرح المسيح بإنهاء عمله الذي سيعطيهم حياة ورجوعه للآب، فرح المسيح هذا هو فرح كامل وهذا الفرح سيكون لتلاميذه، سيسكب عليهم من فرحه هو فنحن لا فرح حقيقي لنا إلاّ بأن يضع المسيح فينا فرحه. وهذا الفرح الذي يضعه المسيح فينا لا يستطيع أحد أن ينزعه منا، ولا أي ظروف (22:16) ونلاحظ أن فرح المسيح كان كاملاً بالرغم من إنطلاقه للصليب مع كل الآلام التي وقعت عليه. ولم يزل المسيح يتكلم بهذا للعالم أجمع، لكل إنسان في العالم، ومن يستجيب ويؤمن ويترك العالم ويتحد بالمسيح سيكون له فرح المسيح كاملاً= وأتكلم بهذا في العالم. وما يفرح المؤمنين أن لهم حماية إلهية في هذا العالم.

    ملحوظة: نحن كثيراً ما نتكلم عن قوة الشيطان وقوة الخطية، وهذا خطأ ليتنا ندركه من هذه الآيات (11-13). فنحن لنا إمكانيات نغلب بها الشيطان والخطية. نحن لنا قوة الآب وشفاعة المسيح. وهذه الغلبة حينما نغلب تفرح الله وتفرحنا، الإمكانيات متاحة لكل من يريد.

    

    آية (14): "أنا قد أعطيتهم كلامك والعالم ابغضهم لأنهم ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم."

    أنا قد أعطيتهم كلامك= وواضح أن المسيح هو كلمة الله، فهو الذي إستعلن الآب وكلام المسيح هو هو نفسه كلام الآب فكل ما للآب هو للابن وما للابن هو للآب. والمقصود بكلامك هو كل ما أعلنه المسيح للتلاميذ عن ذاته وعن الآب. ولما قبل التلاميذ كلام المسيح صارت لهم شخصية جديدة وتحرروا من سلطان رئيس هذا العالم. لذلك أبغضهم العالم، إذ لم يَعُدْ لهم شكل العالم، بل صار لهم شكل أخروي جديد (أع40:5، 41 + 2كو21:11-27) صار لهم شكل المسيح. فهم والمسيح "ليسوا من العالم" فهم يعيشوا في العالم لكن بلا شر العالم. لقد وُهِبَ للكنيسة أن تتألَّم ويكون لها شركة سرية مع المسيح في آلامه، هذه الآلام هي إكليل المجد الذي سيوضع على رؤوس الذين يصبرون إلى المنتهي، وبهذه الآلام يطهرنا المسيح من قذر هذا العالم. إذاً لابد أن يكون تلاميذ المسيح لهم تعليم المسيح ويكونون مبغضين من العالم لماذا؟ لأنهم ليسوا من العالم.. كما أنا لست من العالم= فهم تبعوني وإتحدوا بي. فكل من يصير شكل المسيح يبغضه العالم.

    المسيح هنا في الآيات (13-15) يتكلم عن حتمية الصليب قبل أن يتكلم عن المجد المعد للكنيسة، فالصليب هو طريق المجد السمائي. وهو مجد على الأرض. وهذا فعله مع نفسه، ففي آية (1) كان يقصد مجد الصليب ونصرته وفي آيات (4، 5) تكلم عن المجد السمائي لجسده، فهو تكلم عن صليبه قبل أن يتكلم عن مجده.

    

    آية (15): "لست اسأل أن تأخذهم من العالم بل أن تحفظهم من الشرير."

    تأخذهم من العالم= أي يموتوا. المسيحية ليست سلبية وإنسحاب من الحياة، بل هي التقدم لحل مشاكل الناس وليست هي عدم المبالاة بهم (1كو9:5، 10). والمسيح يرسل تلاميذه نوراً للعالم وملحاً للأرض، وما نفع الطعام بدون ملح، وما قيمة المدينة بدون نور. المسيح هنا يُعَلِّمْ تلاميذه أن لا يكلوا من الضيقات فيسألون أن يتركوا العالم ويخطئوا كما أخطأ إيليا وطلب الموت لنفسه (1مل4:19). بل يكملوا رسالتهم في العالم ويشهدوا للحق ويتقبلوا الإضطهاد بفرح. فالنصرة والمجد في المسيحية ليس في الخروج من الضيقة بل بإحتمالها بعدم تذمر. ولاحظ فهم بولس الرسول لهذه النقطة (في23:1، 24 + 1تس3:3، 4) المسيح لا يريد أن ينهي العالم، بل أولاده بوجودهم في العالم لهم رسالة في العالم ليتقدس العالم، وتصل رسالة المسيح لكل العالم. ما يطلبه المسيح أن يخرج منا العالم وليس أن نخرج نحن من العالم.

    فترة وجودنا في العالم:-

    1.            نكمل العمل الذي خلقنا من أجله (أف10:2)

    2.            نكون نوراً للعالم وملحاً للأرض لنشر معرفة المسيح. لذلك يجب أن نعيش وسط العالم.

    3.   نحتمل بعض الآلام فنشترك في صليب المسيح، وكما إشتركنا في آلامه نشترك في مجده (رو17:8)

    4.   الله يستغل هذه الآلام معنا حتى تزداد قداستنا "فمن تألم في الجسد كف عن الخطية" (1بط1:4) فالألم يجعلنا نزهد في محبة العالم "التي هي عداوة لله" (يع4:4) ونتجه للسماويات وهذه هي القداسة.

    الشرير= هو الشيطان رئيس هذا العالم. فالشر الذي في العالم نابع من سيطرته على نفوس الناس (1يو19:5). والمسيح هنا يسأل الآب أن يحفظ أولاده من سلطان وتأثير الشرير المخادع. وما يعمله الله هو أنه يسمعنا صوته بالروح القدس الذي له قوة جذب. فإن لم نقاوم وإستجبنا وصلبنا أهوائنا مع شهواتنا نكتشف أن قوة جذب الله التي يجذبنا بها للقداسة أقوى بكثير من إغراءات العالم. وهذه الآية مرادفة لما علمنا المسيح أن نصلي به قائلين "لكن نجنا من الشرير" والمسيح سبق وقال "إحفظهم في إسمك" فالاسم القدوس يحيط النفس بجو القداسة ويخفي عن عينها الشر ويبطل قوة العدو وخداعه وتزييفه فالشيطان هو الكذاب الذي يزيف كل شيء كما فعل مع حواء. بل ويعطي قوة وشجاعة إن وصل الأمر للتهديد بالموت (عب4:12).

    ملحوظة: الذهاب للدير والرهبنة ليس هروب من العالم. فالراهب يتعرض لحروب من الشيطان أكثر ممن في العالم.

    

    آية (16): "ليسوا من العالم كما أني أنا لست من العالم."

    هذه الآية تكرار يقصد به التعقيب على الآية السالفة والتمهيد للآية القادمة. أي لأنهم ليسوا من العالم (كما أنا) فهم داخل تبعية المسيح. المسيح رأسهم وملكهم، يعيشوا له ويخدموه لذلك يحاربهم إبليس. قدسهم في الحق حتى يحفظوا من الشرير ويغلبوا كما غلبت.

    

    آية (17): "قدسهم في حقك كلامك هو حق."
    قدسهم في حقك= قدسهم أي خصصهم لك بمسحة الروح القدس للخدمة وكملهم في طريق القداسة وإعطهم الإمكانيات التي بها يحيوا لك. وأهلهم روحياً وذهنياً وقلبياً لذلك. والسيد سبق في آية (15) وطلب من الآب أن يحفظهم من الشرير أي من إغراءات العالم. والحفظ هو عمل سلبي أي حفظهم من الشرير، أمّا التقديس فهو عمل إيجابي لذلك فكان لابد للآية (15) أن تأتي قبل آية (17). فالحفظ يسبق التقديس. هنا نجد التلاميذ وقد نقلهم الآب من منطقة الشرير الموبوءة إلى منطقة الحق النقية. الطلبة الأولى في (آية15) أساسها أن التلاميذ يحيون وسط العالم ولكنهم يحيون منعزلين عن خطيته وأساس الطلبة الثانية في (آية17) أن يتقدموا للخدمة في العالم ليشهدوا للحق الذي فيهم. فالتقديس هو إنتزاع كل ميل نفساني جسداني مادي من قلوبهم ونزع كل ما هو مغاير لروح الله وإرادته ثم تكريسهم وتخصيصهم نهائياً لخدمة الله لتكون حياتهم ذبيحة حية مقدسة مرضية أمام الله" (رو1:12) كما أن المسيح نفسه قدسه الآب وأرسله ليكون ذبيحة فداء عن البشرية. قدسهم في الحق نرى فيها الله وقد نقلهم تماماً من تبعية العالم لتبعيته هو بل وينقل حياتهم وأفكارهم ورغباتهم وتعلقاتهم من عالم الشهوات والماديات التي سبق وتعلقوا بها إلى حياة الحق فتكون كل رغباتهم وأفكارهم وتعلقاتهم هي لخدمة الله. ومن تقدس في الحق تتحرر نفسه من التعلق بالعالم والماديات. وهذا ما طلبه بولس الرسول "إن كنتم قد قمتم مع المسيح فأطلبوا ما فوق حيث المسيح جالس" (كو1:3) فالقداسة هي الاهتمام بالسماويات وهذه (أي القداسة) هي الحق، أما العالم فباطل. وهكذا تعيش الكنيسة في الحق والآب يقدسها في اسمه ويُرِسِلْ لها الروح القدس ليقدس بتبكيته وتعليمه ومعونته والمسيح يقدسها بدمه وبهذا تعيش وسط العالم محفوظة من الشرور وإغراءات العالم، وقد إكتشفت أنها تعيش مخصصة لله وللحياة الأبدية. والكنيسة إكتشفت أن أعدائها هم العالم والجسد والخطية وعلى رأسهم الشيطان فقاومتهم وعاشت في حرية أولاد الله، غير مخدوعة بأفراح العالم المزيفة التي سريعاً ما تزول بل هي مزيفة ومخادعة، أما أفراح الله فلا ينزعها أحد، وسلامه ليس من هذا العالم (يو22:16 + 27:14). بل أن ما في العالم يتسبب في الضيق والقلق والإضطراب، بل هو باطل وفاني، لذلك فمن ينخدع به لا يجد راحة. وعين الإنسان الذي تقدس بالحق الذي هو خلاصة ما أعلنه المسيح، تكتشف خداع العالم فمثل هذه النفس لها النور الذي يكشف الحقيقة. وهذا معنى كلام المسيح في (يو31:12، 32) الآن دينونة هذا العالم.. أي الحكم على العالم بالتزييف والخداع بعد أن ظهر الحق الإلهي فعزل قوة التزييف التي قتل بها إبليس البشر من قبل (يو44:8). ومن يتقدس في الحق يكون نور يفضح أكاذيب العالم. قدسهم= القداسة هي أن نحيا في السماويات. وبهذا فكلمة قدسهم تعني نزع كل ما هو أرضي من القلب ليتفرغ القلب لحب الله وخدمته وفي العبرية تعني كلمة مقدس "مخصص لله".

    إذاً تقديس الحق هو إنفتاح الوعي الداخلي للإنسان بقوة الروح الذي يسكبه الرب على التلاميذ فيرفع رؤية الإنسان وإدراكه فيكشف خداع العالم والشيطان (2كو11:2) فيصير الإنسان قادراً أن يتعامل مع أفكار الظلمة ويطاردها ويكتشف زيفها (يع7:4) لذلك فهناك علاقة وثيقة بين النور والحق، فمن إنفتحت بصيرته  لا يستهويه سوى الحق. أما الذين يستهويهم الزيف فلا يرون النور نوراً بل حرماناً من ملذات وهمية فانية مائتة. فالإنسان الأعمى لا يرى إلاّ ما هو تحت رجليه (يو20:3).

    وحينما يملك الحق بالكامل يملك سلام الله الكامل. ويكون الإتضاع الحقيقي. وحينما يتقدس الإنسان فعلاً تتغير طبيعته فلا يصبح قابلاً للخداع والتزييف بل تكون له طبيعة محصنة بالحق وقوته فلا يعود الإنسان يُحْمَل بكل ريح بل يثبت في الله (1يو16:4) والحق والنور إستعلنا للعالم في شخص المسيح (يو12:8 + 6:14). وبإتحاده بنا جمعنا في جسده وكشف لنا زيف العالم ووحدنا وقدمنا لله أبيه فتبنانا (في 1يو19:5 نرى الحق في مقابل الخداع). ونلاحظ أن عبد الخطية المتعبد لأصنام الجسد والشهوات الجسدية يشعر بنفسه شعوراً محدوداً ضيقاً لأنه محصور في دنيا الأطماع الجسدية. أمّا الذي تقدس بالروح لله وعبادته وإستعلن له الحق فيشعر أنه تحرر من ضيق الجسد وإنحسرت أطماعه ورغباته ولا يعود للملذات جمالها المخادع بل تصير تحت قدميه. ومن هنا يبدأ الخلود والحياة الحقيقية لذلك قال القديس أغسطينوس "جلست فوق قمة العالم حينما أصبحت لا أشتهي شيئاً" وحينما يعيش من تقدس في الحق وسط العالم، يعمل وسط العالم بروح الله ولا يخدعه العالم، لا يكون من داعٍ بعد ليأخذه الله من العالم (آية15) ولاحظ أن بولس الرسول حين قال أنه يشتهي أن ينطلق ويكون مع المسيح، قال أنه محصور بين هذه الشهوة وشهوة أخرى هي أن يعيش ويكرز ليخدم المسيح (في22:1-24).

    كلامك هو حق= أي كل التعليم الذي يخص الآب والذي أعلنه يسوع. هذا الكلام فليتقدسوا فيه. كلام الحق أو الكلام الذي هو حق هو إستعلان الله للوعي الداخلي للإنسان. وتصير الكلمة هي المرشد والقائد للنفس الأمينة، لتُدْخِلها إلى حضرة الله الآب فترتسم على النفس صورة الله وتحترق منها كل شوائب الخداع وتنطبع فيها ملامح الله في القداسة والحق (أف21:4-24) فكلام الله هو واسطة الدخول إلى الله، على أن نأتي إلى كلمة الله بنية التغيير (عب1:2). كلام الله هو وسيلة تقديس. "وأنتم الآن أنقياء لسبب الكلام الذي كلمتكم به" (يو3:15) وهذه أهمية دراسة كلمة الله.

     

    آية (18): "كما أرسلتني إلى العالم أرسلتهم أنا إلى العالم."

    إذاً تقديس التلاميذ الذي يطلبه المسيح ليس ليرتفعوا به عن العالم بل أن يقتحموا العالم وظلمته فيحطموا أوثانه، كما حدث مع الإمبراطورية الرومانية. وكما أرسل الله الآب ابنه وقدّسه ليشهد للحق (يو36:10) فرفضه العالم وصلبه، هكذا أرسل الإبن تلاميذه وقدّسهم ورفضهم العالم. ولكن لنلاحظ أن المسيح أُرسل من السماء إلى العالم أمّا التلاميذ فأرسلوا من العالم إلى العالم. ورسالة المسيح كانت للفداء أمّا رسالة التلاميذ فهي للتبشير. إلاّ أنه بنوع ما فإن رسالة التلاميذ هي إمتداد لرسالة المسيح وبآلامهم يكملون نقائص شدائد المسيح (كو24:1).

    

    آية (19): "ولأجلهم اقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق."

    أقدس أنا ذاتي= سبق المسيح وقال أن الآب قدَّسه (يو36:10). ومن هنا نفهم أن الآب والإبن متساويان في الألوهية. فبمقدار ما إختار الآب أن يخصص الإبن المتجسد لعمل الفداء بقدر ما استجاب الإبن لدرجة الموت. فالمشيئة واحدة فهم ذات واحدة. وهذا التطابق في المشيئة أزلي نفذه الإبن في ملء الزمان.

    والتقديس هو عمل الله وحده، ولا يوجد إنسان يمكنه أن يقول أقدس أنا ذاتي. فالتقديس هو أن يصير الإنسان من خاصة الله، والله وحده يعين خاصته وللإنسان فقط أن يطلب التقديس ولكنه لا يعطيه قط. لذلك قوله أقدس أنا ذاتي دليل ألوهيته.

    أقدس= أي أنا وضعت ذاتي للصليب وأيضاً قبلت تخصيص الآب لي للقيام بعمل الفداء (مز8:40). فمشيئة الآب والإبن واحدة لكن ما يريده الآب ينفذه الإبن. فالآب يريد فداء البشر والإبن يقبل بسرور إتمام الفداء فهذه إرادته أيضاً وسلطانه (يو18:10).

    لأجلهم أقدس أنا ذاتي= هنا المسيح يتكلم كرئيس كهنتنا، أقدم ذاتي وأكرسها لأكون ذبيحة من أجل البشر (يو17:10، 18) ولاحظ أنه يقول أقدس ولم يقل قدست. فنحن محتاجون لهذا التقديس بإستمرار. وبنفس المفهوم قال السيد المسيح عند تأسيس سر الإفخارستيا "هذا هو جسدي الذي يبذل عنكم.. دمي الذي يسفك عنكم" (لو19:22، 20) فهو دم مسفوك دائماً، لذلك فذبيحة الإفخارستيا هي هي نفسها ذبيحة الصليب.

    وحان الوقت ليكمل المسيح عمله وبمشيئته. وفي (عب10:10) نرى أنه بهذه المشيئة الأزلية وبتطبيقها وتنفيذها في ملء الزمان نحن مقدسون (أف4:1، 5 + 2تي9:1). فالآب أرسل ابنه ليفتدي البشر ويقدسهم وبطاعته قدسهم= لأجلهم وتلاميذه بطاعتهم له وإتباعهم وصاياه حتى الموت كما فعل هو يتقدسوا.

    ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق= تقديس التلاميذ يكون بتطهيرهم داخلياً ثم تكريسهم خارجياً. ولكن تقديس المسيح هو عمل خارجي عبارة عن تكريسه لذاته وتقديمها لله ذبيحة حية مقدسة. ولاحظ أن التلاميذ عاجزين أن يقدسوا ذواتهم بل هم محتاجين أن الله يقدسهم (عب10:10). فتقديس التلاميذ هو عمل إلهي من عمل الله نفسه، وبذبيحة المسيح غير المحدودة في التقديس من ناحية الزمان والمكان. ولنلاحظ إرتباط هذه الصلاة مع ما قدَّمه لهم المسيح منذ دقائق، ذبيحة جسده ودمه المسفوك لتقديسهم. فتقديس المسيح سلًّمه لنا في ذبيحته تسليماً أكلاً وشرباً. فلنطلب لنصير مقدسين في الحق، حق المسيح، في ذبيحته وقيامته وحياته ولنجحد العالم ونلتصق بالله فنتقدس.

    الآيات (20-26): فيها يطلب المسيح من أجل وحدة الكنيسة كلها عبر الدهور. والمسيح هنا ينتقل من الوحدة بين التلاميذ إلى وحدة الكنيسة كلها. ومن المعرفة المعلنة للتلاميذ بحضوره إلى المعرفة المستعلنة بالروح والممتدة عبر العالم كله. وهذا هو عمل الروح القدس أن يوحد المؤمنون في شخص المسيح كأعضاء في جسد واحد (أف16:4 + كو19:2). وكأغصان في كرمة واحدة (يو1:15، 2). والأعضاء ترتبط بالمسيح الرأس لتكون واحداً في المسيح. والوحدة التي بين المؤمنين تفترق عن أي وحدة أخرى في العالم. فالحق هو محور هذه الوحدة، والحب هو عصبها. ومن (أف1:4-6) نفهم أن مصادر الوحدة هي الإيمان بالله الواحد والمعمودية الواحدة والتناول من جسد المسيح الواحد والمحبة ووحدانية القلب. في آية (11) "إحفظهم في إسمك" وفي آية (17) "قدسهم في حقك" ومن حفظهم الله وقدسهم لابد وسيكونون في وحدة وبلا إنشقاق وهذا موضوع الآيات التالية.

    

    آية (20): "ولست اسأل من أجل هؤلاء فقط بل أيضاً من اجل الذين يؤمنون بي بكلامهم."

    الذين يؤمنون= في كل زمان وكل مكان. بكلامهم= هذه قد تفهم أنه بكلام التلاميذ وبكرازتهم وبأقوالهم التي سجلوها في الأناجيل والرسائل وسفر الرؤيا، يؤمن الناس بكلامهم. والمسيح يطلب الوحدة لكل من يؤمن في كل مكان وكل زمان. وقد يفهم هذا أن من يؤمن سيجاهر بإيمانه وكلامه علناً وصراحة. والرأي الأول هو الأرجح. الذين يؤمنون= إذاً الذين لا يؤمنون لا شفاعة لهم في هذه الصلاة، والسبب بسيط أن المسيح لا يجبر أحد أن يؤمن به. لكن علينا نحن أن نصلي لكل الناس. فشفاعة المسيح هي شفاعة كفارية بدمه. فمن لا يؤمن لا يستفيد من دم المسيح. لكن المسيح أرسل تلاميذه يدعون العالم كله للإيمان، فهو يريد أن الجميع يخلصون، ومن يؤمن يستفيد من هذه الشفاعة.

    أسأل= وماذا يطلب المسيح عن المؤمنين؟ في الآيات الآتية يطلب أن يكونوا واحداً. هي وحدة في الفكر والهدف والمشاعر بلا إنقسامات أو تحزبات، فنحن جسد واحد ونحن من لحمه ومن عظامه (أف3:4-6 + أف30:5) وإذا فهمنا أن المسيح وحدنا في جسده وجعلنا جسد واحد، فهذا المفهوم هو أقوى من موضوع المشاعر فهذه وحدة كيان.

    

    الآيات (21-23): "ليكون الجميع واحداً كما انك أنت أيها الآب في وأنا فيك ليكونوا هم أيضاً واحداً     فينا ليؤمن العالم انك أرسلتني. وأنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً كما أننا  نحن واحد. أنا فيهم وأنت في ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم انك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني."

    

    ماذا طلب السيد المسيح من الآب حتى الآن ليطلب الوحدة في الآيات التالية:

    (آية1):- أن ينصره الآب في معركة الصليب ليتم الفداء.

    (آية2):- الفداء كان ليكون لنا حياة أبدية، أتى المسيح ليعطيها لنا.

    (آية3): من حصل على الحياة الأبدية تتفتح حواسه الروحية فيعرف الله.

    (آية4، 5):- المسيح يطلب أن يتمجد بالجسد بنفس مجد لاهوته الأزلي. وهذا الطلب هو لحساب البشر كما نفهم من آية (22) ولكن كيف يتم هذا؟ هذا سنراه فيما يلي:

    (آية6):- لكل من ينفذ وصايا الله سيعرف المسيح، والمسيح يجعله جزءاً من جسد الكنيسة. والكنيسة هي جسد المسيح.

    (آية7، 8):-هذا لمن يؤمن بالمسيح (وهم التلاميذ الذين آمنوا بالمسيح حتى الآن).

    (آية9):- شفاعة المسيح هي لمن آمن. فشفاعة المسيح يستفيد بها من آمن فقط.

    (آية10):- المسيح يجمع كنيسته في جسده ليقدم بكنيسته الخضوع للآب، الصورة التي يفرح بها الآب وهي المحبة. الآب يفيض بمحبته في صورة عطايا وبركات. والكنيسة تظهر محبتها في خضوعها للآب (1كو28:15).

    (آيات11-13):-هناك حماية إلهية لمن ينتمي إلى جسد المسيح فالآب يقدس والإبن يقدس. ولكن دون إجبار، لكن من يرفض فهو ابن للهلاك. وما يفرح المسيح خلاص نفوس المؤمنين، بل هذا يفرح المؤمنين أن يعرفوا أن هناك حماية إلهية لهم في هذا العالم.

    (آيات14-16):- كما أبغض العالم المسيح سيبغض كنيسته. ولكن لاحظ فالمسيح قبل أن يخبرنا بغضب العالم علينا أخبرنا بالحماية الإلهية لكنيسته (آيات11-13) والمسيح يكلمنا في هذه الآيات عن الصليب قبل أن يتكلم عن المجد الذي لنا، فالصليب مجد على الأرض وطريق المجد المعلن في السماء.

    (آية17):- الآب يقدس المؤمنين ليعيشوا في الحق ويشهدوا للحق وسط العالم الذي يبغضهم، والشهادة للحق تجعلهم نوراً للعالم، فيهتدي العالم ويؤمن بالمسيح.

    (آية18):- هذا هو دور الكنيسة، أن تكمل عمل المسيح فتكون نوراً للعالم وملحاً للأرض، تشهد للحق وسط العالم الباطل. فالله يريد أن العالم كله يخلص (1تي4:2) ولقد لخص بولس ما سبق فقال نحن عمله (= كانوا لك)(وأعطيتهم لي)= مخلوقين في المسيح يسوع. لأعمال صالحة (=أرسلتهم للعالم) (أف10:2)

    (آية19):- المسيح يشجع الكنيسة وهو يخبرها بهذه الأخبار بأنه هو نفسه سيموت كذبيحة عن العالم= أقدس أنا ذاتي. وهو بدم صليبه سيقدس كنيسته طوال الأيام ليكون شعبه مقدساً في الحق.

    (آية20):- كل من يؤمن يستفيد بشفاعة المسيح الكفارية.

    (آيات21-23):- هنا نرى طلب المسيح أن نكون واحداً فهو كما رأينا يكون كنيسته أي جسده من أعضاء هي نحن. والوحدة بيننا ستكون بأن يكون كلٌ منا جزء من جسده، والثبات فيه سيكون بالمحبة، فمن يثبت في محبته سيثبت فيه "كما أحبني الآب كذلك أحببتكم أنا، إثبتوا في محبتي" (يو9:15).

    كما أحبني الآب= كما أنك أنت أيها الآب فيّ وأنا فيك.

    ليكونوا هم أيضاً واحداً فينا= أنا في أبي وأنتم فيّ وأنا فيكم (يو20:14)

    أنا في أبي= هي وحدة لاهوتية بين الآب والإبن.

    أنتم فيّ= صرتم جزءاً من جسدي= هؤلاء قال عنهم "الذين أعطيتني"

    أنا فيكم= صارت فينا حياة المسيح.

    فنحن نتحد بالمسيح بالجسد فنصير واحداً فيه ولنا حياته.

    ولأن الإبن يتحد ناسوته بلاهوته قال الرسول "حل فيه كل ملء اللاهوت" (كو9:2) ولأننا إتحدنا بالإبن "صرنا مملوئين فيه" (كو10:2).

    مملوئين براً وقداسة وبركات روحية ومادية ومحبة وسلطان على الخطية وإبليس.. وهذه قال عنها يوحنا "أما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع" (1يو3:1) لقد حملنا المسيح إلى حضن أبيه بعد أن وحدنا فيه.

    وقيل عن الإبن أنه في "حضن أبيه" (يو18:1) تعبيراً عن الوحدة. والوحدة مع الآب هي الدخول في شركة حب معه، يفيض علينا بمحبته ونعمته ونحن إعلاناً عن محبتنا نخضع له، وهذه هي الصورة التي عبر عنها بولس الرسول بقوله "حينئذ الإبن نفسه أيضاً سيخضع" (1كو28:15) فهو رأس الكنيسة أتى بكنيسته خاضعة لأبيه. وحدها كما يريد الآب وصيرها خاضعة له كما يريد أيضاً.

    أنا فيهم= أعطيتهم حياتي وأنت فيّ = فقد حلَّ في جسدي كل ملء اللاهوت. وبهذه القوة اللاهوتية التي في جسدي أحفظهم في وحدة، ككنيسة واحدة لها مجد أبدي.

    (آية24):- هذه الكنيسة ستكون حيث مسيحها في مجده.

    (آية25-26): العالم بسبب خطيته إنفصل عن الآب البار ولم يعد يراه ولا يرى مجده، والمسيح أتى ليبرر العالم فيعود لمعرفة الآب ورؤية الآب ومجد السماء. وهذا لن يكون إلاّ بالحب الذي هو طبيعة الله. وهذا المجد للكنيسة أبدي= أكون أنا فيهم فالمسيح لن يعود يموت (رو9:6). وبالتالي كنيسته التي تحيا بحياته لن تموت للأبد.

    المسيح يطلب الوحدة بعد أن سبق وأعلن أنهم آمنوا به ثم طلب أن يحفظهم الآب في اسمه القدوس في العالم. وطلب بعد ذلك أن يقدسهم في الحق. والآن يطلب أن يبلغوا الوحدة. فمن يؤمن تكون الخطوة التالية له أن يحفظه الآب في اسمه القدوس. ومن يُحْفَظْ في اسم الآب يؤهل للتقديس في الحق. ومن يتقدس في الحق يؤهل للوحدة. ونلاحظ أنه بالخطية تفتتت الوحدة بين الإنسان، وفقد وحدانيته التي كان يتراءى بها في حضرة الله. والآن المسيح يطلب لتعود لكنيسته صورة الوحدة (أف11:4-13). الله خلق الإنسان في وحدة. فحواء مأخوذة من جسد آدم. إذاً هما جسد واحد. والأولاد من كليهما. إذاً البشرية كلها جسد واحد. وكان المفروض أن تكون في وحدة؟ وحدة محبة الجسد الواحد. ولكن بالخطية تبددت الوحدة وقام قايين وقتل أخاه هابيل. وجاء المسيح ليعيد هذه الوحدة. ولاحظ أن آيات الوحدة هذه هي آخر كلمات يقولها المسيح قبل صلبه، والمعنى.. أنا أتيت لأجل هذا، لأعيد الوحدة المفقودة. الوحدانية التي هي هدف الخلقة والمحبة لله وللناس. وهذا ما تحقق في الكنيسة الأولى (أع44:2 + 32:4). وهذا يكون بسبب الروح القدس الذي يسكب المحبة في قلوبنا (رو5:5) محبة الله والناس. أما كل حب خارج المسيح فهو نفعي أو شهواني. ولكن الحب في المسيح فهو بذل على شكل حب المسيح لنا. وهذه الوحدة درجة أعلى من الإيمان. فالمسيح يطلب عن التلاميذ الذي سبق وأعلن يقينية إيمانهم، وهي وحدة على صورة وحدة الآب والإبن، وحدة بالحب. وبالتأمل في (أف11:4-13) نرى أن الرسول بولس يتكلم عن الإنسان الكامل، وهذا هو الإنسان الذي إنطبعت فيه صورة الله. والتسلسل الذي إتبعه بولس  بدأ بوحدانية الإيمان وهذه توصل لمعرفة ابن الله أي إستعلان سر الله، سر علاقة الآب بالإبن والحياة الأبدية (يو38:10 + 20:14). وإستعلان سر الله بالمعرفة الروحية يوصل إلى الإنسان الكامل. ولكل واحد من أعضاء الكنيسة الواحدة مواهبه فيتكامل الجميع وتبلغ الكنيسة في النهاية إلى صورة المسيح الكاملة التي يُعَبِّر عنها بولس الرسول هكذا "إلى قياس قامة ملء المسيح" (أف13:4) ولكن علينا أن نجتهد في سبيل ذلك (أف3:4-5).

    وإتحادنا بالمسيح هو الطريق للوحدة بيننا وبين بعضنا ثم هو الطريق للوحدة مع الآب. ولاحظ أن الطريق لنكون واحداً في الله أن يسبق هذا وحدتنا. والطريق لوحدتنا أن نثبت في المسيح= ليكونوا واحداً فينا= فلا يصلح أن نكون واحداً فقط، بل المهم أن نكون واحداً في المسيح وفي الآب. فهناك من إتحدوا في الشر. ولكن من الذي يتحد بالمسيح سوى من أحب إخوته بل وأعدائه، فمن يجاهد ليحب إخوته يثبت في المسيح وهذا يبدأ بالمعمودية. وبلوغ الكنيسة حالة الوحدة في ذاتها يؤهلها للإتحاد بالمسيح وبالآب، لذلك بدأت طلبة المسيح بأن يكون الجميع واحداً كعطية من عند الآب يهبها للكنيسة بسكب مواهب الروح في أعضائها. وهذا لمن يجاهد أن يحب إخوته. وبعد هذا يؤهلوا أن يكونوا واحداً في الإبن والآب. فالمسيح وحدنا فيه بالروح القدس بالمعمودية. ولكن من يجاهد ليحيا في محبة مع الآخرين يثبت في المسيح. وكل من يفعل هذا يحيا في وحدة. وعن طريق وحدتنا مع المسيح أيضاً نتحد مع الآب. والمسيح بروحه القدوس يوحد مثل هؤلاء ويجعلهم واحداً. فالجماعة لا تتحد إلاّ بالوجود في الآب والإبن. وهذه الوحدة وهذه المحبة هي التي تؤثر في العالم=  ليؤمن العالم أنك أرسلتني.

    كما أنك أنت أيها الآب فيَّ وأنا فيك.. المقصود هو المشابهة وليس المساواة. فالمسيح يضع الوحدة بينه وبين الآب كنموذج ليكون لنا الوحدة في المحبة، فالآب واحد مع الابن بالمحبة. وهذه العبارة "أنت فيّ وأنا فيك" تشير لكيان واحد ذاتي، فالآب كله للابن والإبن كله للآب. وكل ما لأحدهم هو للآخر "كل ما هو لي فهو لك وما هو لك فهو لي" ومن الآيتين نفهم طبيعة الوحدة بين الآب والإبن.

    وكيف ينطبق هذا علينا؟.. من سألك فأعطه إذاً هي محبة باذلة(مت42:5 + أع44:2-46 ، 32:4).

    وإتحادنا معاً لا يلغي شخصياتنا بل كما الفرقة الموسيقية تصدر لحناً واحداً. وهكذا للأقانيم الثلاثة فلكل أقنوم عمله. ونحن لكل منّا دوره في الكنيسة ونتكامل معاً.

    وإذا فهمنا أن المطلوب أن يكون كل واحد لا لنفسه بل للآخرين نأتي لمفهوم المحبة التي يجب أن تكون بيننا والتي هي صورة للمحبة الكائنة بين الآب والإبن والتي هي صفة جوهرية من صميم طبيعة الله فالله محبة. وهذه المحبة من الإبن للآب ظهرت في طاعته حتى الصليب وراجع (يو31:14 + 35:3 + 9:15 + 24:17، 26) لنرى حب الآب للإبن والإبن للآب. وهذا الحب الذي بين الآب والإبن إنسكب كعطية على البشر (رو5:5). وهذه المحبة فائقة للطبيعة البشرية وبها يمكننا أن نحب أعدائنا، بل نقدم أنفسنا ذبائح عن المسيح وعن الآخرين (يو12:15 + 1يو16:3 + 1يو7:4، 8). وهذه المحبة دليل وحدتنا مع الله وحضور الله في روح الإنسان وقلبه وهي إعلان عن الإيمان القوي الفعال. ومن يثبت في المحبة يثبت في الله والله فيه (1يو16:4). والمحبة هي هبة عظيمة مجانية ولكننا نأخذها لنعطيها وعطاؤها هو بذل النفس وإنكارها حتى الموت. ومن لا يتشجع ويعطي تسحب منه ويصبح بلا محبة غريباً عن صليب المسيح (1يو14:3). إذاً فالوحدة التي وهب لنا الله أن نبلغها في المسيح في الله يجب أن تكون ضحيتها الأنا وإذا ماتت الأنا فسأحب أعدائي (غل20:2 + أع24:20). لكن لنفهم أن وحدانية الآب والإبن هي وحدانية تساوي في الجوهر. فلهما وحدة كيان وجوهر وذات وكرامة وطبيعة. أما وحدانيتي مع الله فهي شيء مكتسب برحمة الله ونعمته. وليس للتساوي. هو يكمل عجزي ونقصي. وفي هذه الوحدة يعطيني حياته فأقول "لي الحياة هي المسيح" (في21:1 + غل20:2) ويعطيني إمكانياته فأقول "أستطيع كل شيء في المسيح الذي يقويني" (في13:4) وأعطيه حياتي وكل ما لي قائلاً "أنا لحبيبي وحبيبي لي" (نش3:6).

    أنا فيهم وأنت فيّ= لم يقل المسيح أنت فيّ وأنت فيهم لأن حلول الآب في المسيح يختلف عن حلوله في المؤمنين. ولم يقل المسيح هم فيك وأنا فيك لأن ثبوت المسيح في الآب غير ثبوت المؤمنين فيه (بنفس المفهوم نفهم قول المسيح أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم" 17:20) وبنفس الطريقة نفهم أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني فهذه لا تعني المساواة بيننا وبينه فهو ابن للآب بطبيعته وله كل المجد الذي للآب، أمّا نحن فصرنا أبناء بالتبني وتنعكس صورة مجده علينا. والوحدة بين الآب والإبن قائمة على أساس التساوي بينهما فهم واحد في الجوهر. أمّا الإنسان، فكل واحد مختلف عن الآخر، وكل البشر هم لا شيء أمام الله. ولكن وحدتنا مع الله تعني إنسكاب قوته فينا ليعيد تشكيلنا لنصير على صورته، وتعمل هذه القوة فينا فتلغي عداواتنا وإنقساماتنا ونتقدس، ويبدأ نور معرفة المسيح ينساب داخلنا فتستعلن لنا الوحدة الكائنة في المسيح والآب بقوة تدخلنا في الإحساس والوجود الفعلي في حضرة الآب والإبن. وهكذا نتحد بسبب الروح الواحد الذي نستقي منه (1كو13:12) والجسد الواحد الذي نغتذي عليه (1كو16:10، 17).

    والإتحاد مع الله هو إتحاد كل القوة والقداسة والحق باللاشيء، بالإنسان الميت، ليقدس ويحيي هذا المائت. كما تقول ثيؤطوكية الجمعة "أخذ الذي لنا وأعطانا الذي له.. " هو إتحاد لتغطية النقص والعجز من ملئه  (كو9:2، 10). وحلول كل ملء اللاهوت في المسيح جسدياً تعني أن الإبن قبل التجسد هو الله وأنه أي الإبن بالتجسد كان له ملء اللاهوت. وملء اللاهوت جسدياً يعني أن الإبن صار جسداً منظوراً ملموساً لنعرف الله ونسمعه وندركه (1يو1:1-3). فملء اللاهوت جسدياً هو ملء الله حل في جسد المسيح وهذا جعله في متناول أخذنا (يو16:1). نأخذ من ملئه قداسة وحياة أبدية ووداعة ونور وحق وخبز حقيقي وماء حياة.. وهذا ما عناه المسيح بقوله "أنا فيهم.. وأنت فيّ". فهذا إتحاد غير منفصم. بل صار لنا فكر المسيح (1كو30:1 + 16:2). أنا فيهم= حياتي فيهم. أنت فيّ= أنا في الآب والآب فيّ فأنا والآب واحد.

    

    لقد وضع المسيح بصليبه أسس الإتحاد المقدس. إن وحدة الآب مع المسيح تقوم على التساوي كلياً وفي كل شيء فهي وحدة ذات وكرامة ومجد وكمال مطلق، وحدة طبيعة جوهرية، أمّا الوحدة التي لنا في المسيح فهي وحدة نعمة ورحمة وتفضل وهبة يأخذها من يؤمن ويحفظ كلامه.

     الوحدة بين المسيح وبين الإنسان

    ليكونوا واحداً= بعمل المسيح والآب والروح القدس يصير المؤمنين واحداً. لكن المؤمنين وحدهم لا يمكنهم أن يتحدوا. ليكونوا مكملين إلى واحد= هنا إرتقاء وسمو بالوحدة التي يطلبها لنا المسيح، فهي وحدة أولاً بيننا ثم هي بيننا وبينه وبين الآب وأخيراً تكميلها إلى الكمال أي نصير مملوئين فيه (يو14:1، 16 + كو10:2 + أف14:3-20).

    أنا قد أعطيتهم المجد الذي أعطيتني ليكونوا واحداً= هو مجد ناشئ عن حياة المسيح فينا وإتحاد جسده بجسدنا.. المسيح فيكم رجاء المجد (عب10:2 + كو27:1). وهذا ما يعطينا البنوة لله بالمسيح ونصير كلنا واحداً. وهو مجد حلول الروح القدس فينا يوزع على كل واحد مواهبه. والمجد الذي نأخذه الآن هو عربون المجد العتيد أن يستعلن فينا (رو18:8). حلول الله فينا هو المجد ولكنه الآن غير مرئي. أما في السماء فسيكون مرئياً. هذا المجد أعطاه الآب للابن في الجسد. ومن فيض هذه النعمة التي إنسكبت على الإبن من الآب أعطى المسيح للمؤمنين به. وهذه النعمة أو هذا المجد يكون بإتحادنا به. وهذا يؤدي لوحدتنا. أما في السماء فسيكون هذا المجد ظاهراً فنكون مثله (1يو2:3). عموماً من يصير على صورة المسيح على الأرض (غل19:4) يصير مثله في السماء (1يو2:3). المجد الذي أعطاه المسيح لنا هو سبب وحدة الكنيسة. وذلك لأن الشقاق والإنقسامات بين الناس سببها صراعهم على أمجاد هذا العالم الباطل أي الأمجاد الوهمية. لكن من يصدق أن المسيح أعطاه كل هذا المجد سيبيع اللآلئ العادية (أمجاد العالم) أي تصير عنده بلا قيمة، إذ قد حصل على اللؤلؤة كثيرة الثمن (أمجاد السماء) التي سيحصل عليها بل حصل عليها بإتحاده بالمسيح. ومن حصل على هذا المجد الذي نحن فيه الآن وسوف يستعلن فينا (رو18:8) لن يتصارع على أمجاد هذا العالم. والروح القدس الذي فيه سيعطيه محبة لكل الناس حتى أعدائه. وبالمحبة نتحد معاً بل نتحد مع الله فالله طبيعته المحبة، ومن هو مملوء محبة يستطيع أن يتحد بالله فالله محبة. وإتحاد الآب والإبن هو بالمحبة وقد تم التعبير عن هذا الإتحاد بتسمية الآب بالمحب وتسمية الإبن بالمحبوب (أف6:1) والروح القدس هو روح المحبة فالروح القدس ينقل حب الله الآب المحب إلى الإبن المحبوب. وبإتحادنا بالإبن بالمحبة تنتقل محبة الآب أيضاً إلينا أي نثبت فيه. هذه الآية نجد فيها الرب يقنعنا بأن نحتقر العالم فنتحد. أما في أية (11) نجد قوة تحفظ هذه الوحدة. ولنلاحظ أن إنتقال محبة الآب لنا هو شركتنا ووحدتنا مع الآب.

    المجد الذي أعطيتني= المسيح بلاهوته لا يقول هذا فهو له المجد منذ الأزل. ولكن هذه تعني المجد الذي ناله بجسده لحساب الإنسان، وهذا ما كان المسيح يطلبه في الآيات (4:17، 5). وتم التعبير عن مجد المسيح بالجسد في قانون الإيمان بقولنا جلس عن يمين الآب (يو39:7 + 31:13، 32).

    وهذا المجد يتحول للإنسان إذا قبل الصليب مع المسيح (لو28:22-30 + رو17:8، 18 + 1بط14:4) فمجد المسيح بجسده بدأ بالصليب. وكما أن الخطية شتتت الوحدة التي للإنسان، فالمسيح بجسده الممزق على الصليب أعاد وحدة الكنيسة وبجسده المكسور في الإفخارستيا يوحدنا به. هكذا صار الصليب هو المجد وروح المجد وإكليل المجد الذي وُهِبَ للإنسان أن يتقلده مثل المسيح. ونلاحظ في (عب10:2 + 9:5) أن المسيح تَكَمَّلَ بالآلام. وهنا نسمع ليكونوا مكملين إلى واحد ومن هذا نفهم أن كمال الوحدة يكون في إحتمال الكنيسة للآلام والصليب، وأن من يحتمل الألم يكون له مجد. فنحن بإحتمالنا للألم يكون لنا شركة آلام وحب مع المسيح وبالتالي نتمجد كما تمجد إذاً نحن نتوحد مع المسيح بشركة آلامه وقبل هذا الإيمان والحفظ في اسمه والتقديس في الحق. ليعلم العالم أنك أرسلتني= حينما يرانا العالم في محبة ووحدة يؤمن بالمسيح إذ يرى التغيير الكبير في حياة أولاد الله. وبعد صعود المسيح ما عاد الناس يرونه، لكنهم يرون كنيسته، فإن كانوا واحداً في محبة سيؤمنوا بأن المسيح كان من عند الله. وهذه المحبة ستشهد أيضاً أننا محبوبين من الله= وأحببتهم كما أحببتني= فنحن محبوبين كما أن الإبن محبوب عند الآب. لأننا في المسيح. والعالم سيدرك هذا. وحينما يرانا العالم نحتمل الآلام في فرح، محبة في الله، ويرى وحدتنا يكون هذا شاهداً لصدق رسالة المسيح. فأكبر عثرة تعطل الإيمان هي عدم المحبة بين المؤمنين. وهذا ما كان سبب الإيمان في الكنيسة الأولى، أن غير المؤمنين كانوا يرون إحتمال الشهداء للموت والآلام بفرح. ومحبتهم لله ولبعضهم البعض. وقبول الموت بفرح نابع من إنسكاب محبة الله فيهم= أحببتهم كما أحببتني الآب يحبنا بنفس قدر محبته للإبن. وهذه محبة لا نهائية ولا توصف. والمسيح يعلن هذا لندرك مدى هذا الحب. وللأسف فمن يهتم وسط هذا العالم المادي.. !! ونلاحظ أننا موضع سرور الآب بالإبن فهو يحبنا في ابنه المتحد بنا.

    المجد الذي أعطيتني= المجد الذي ناله المسيح بالجسد هو نفس مجد لاهوته الذي كان له منذ الأزل وهو نفس مجد الآب. وهذا تم تصويره في (رؤ21:3) "كما غلبت أنا أيضاً وجلست مع أبي في عرشه". فالجلوس في عرش الآب يعني أن المسيح صار له نفس مجد الآب، كما نقول في قانون الإيمان (جلس عن يمين أبيه). وأنا قد أعطيتهم المجد= كل منا يعكس جزء من مجد الإبن بقدر ما يستحق وبقدر جهاده، "ونجم يمتاز عن نجم في المجد" (1كو41:15). وهذا تم التعبير عنه "من يغلب يجلس معي في عرشي". لكن قطعاً لن يكون لنا نفس مجد الإبن.

    

    آية (24): "أيها الآب أريد أن هؤلاء الذين أعطيتني يكونون معي حيث أكون أنا لينظروا مجدي الذي أعطيتني لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم."

    أريد= ولأن الآب والإبن واحد فإرادة الإبن هي إعلان عن إرادة الآب. المسيح هنا يقول أريد وهي أعمق بكثير من أسأل (آية9). وماذا يريد؟ أن نكون معه لنرى مجده ونفرح. هل هناك حب أعظم من هذا!    أريد= هي إعلان عن إرادة الآب، وهي شفاعة الإبن وعمله الفدائي عنا.

    يكونون معي= هذا هو مجد الوحدة وإكليلها الفاخر (يو26:12). فمن يتبع المسيح في الصليب سيتبعه في المجد (رؤ4:14، 5 + يو3:14 + 36:13 + رؤ21:3). ويوحنا في (يو14:1) يقول رأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب. فهذا المجد الذي استطاع أن يراه هو كل ما أمكنه إدراكه من خلال حجاب الجسد والمسيح في حالة إخلاء. كما من خلال مرآة أو لغز (1كو12:13). ولكن المسيح هنا يتكلم عن رؤية مجده وهو في كامل إستعلان لاهوته في السماء مع الآب ولا يحجز الجسد منها شيئاً "لأننا سنراه كما هو" (1يو2:3). وقوله أنا فيكم وأنتم فيّ فهذا عن وجودنا في العالم فنحن نكون فيه الآن بالإيمان فقط (أف17:3). فالوحدة بالحلول وبسر الإفخارستيا (يو56:6) يُعوِّقها الجسد ويُحِّدْ من فاعليتها وإستعلانها وينقص من بهجتها بسبب عجز الجسد وقصوره ورغباته المعاكسة. ولكن حين نتخلص من هذا الجسد الفاسد سنتواجد مع المسيح في حالة رؤية كاملة وإستعلان كامل ولكن المسيح لم يخبرنا عمّا سنراه فنحن لا يمكن أن نتخيله الآن (يو12:3 + 2كو4:12 + 1كو9:2) وقارن مع (1يو2:3 + كو4:3 + في21:3 + 2كو18:3) لنرى جسد المجد الذي سنأخذه ولاحظ عمق محبة المسيح لنا، فبينما هو مقبل على الصليب نجده مشغولاً بأن نكون معه في المجد.

    لينظروا مجدي= مجد الكلمة المتجسد (في8:2-11) والذي إكتسبه بطاعته لله الآب (عب9:2).

    لأنك أحببتني= ولقد إمتد حب الله الآب لابنه ليشمل كل الذين آمنوا به وقبلوه (يو16:3). لقد نلنا بالتبني عينة من حب الآب لابنه لنحيا في مجال حب الله الأزلى لإبنه. فالمسيح إذاً يطلب الوحدة بيننا وبين بعضنا البعض وبيننا وبين الله حتى نضمن أن نعاين هذا المجد للأبد إذا كنا ثابتين فيه بالحب. ونتمتع بالحضرة الإلهية. وإذا رأيناه نصير مثله (1يو2:3) إذاً فالمسيح طلب [1] الحفظ [2] التقديس [3] الوحدة.. والهدف المجد للمؤمنين برؤية مكشوفة.

    لأنك أحببتني= والآن أحببتهم فهم صاروا جسدي= الذين أعطيتني.

    

    آية (25): "أيها الآب البار أن العالم لم يعرفك أما أنا فعرفتك وهؤلاء عرفوا انك أنت أرسلتني."

    أيها الآب البار= هذه هي المرة الوحيدة التي إستعمل المسيح فيها هذا اللقب للآب وكما قال سابقاً أيها الآب القدوس لأن طلبه كان أن يتقدس تلاميذه. قال هنا عن الآب أنه بار:

    1. ليشير لبر الله وعدله وأنه سيعطي أكاليل البر لمن آمنوا به ويمتعهم بالمجد. فكلمة بار تترجم عادل (1يو9:1). والله في بره وعدله وقداسته لا يطيق الخطية ولكنه في رحمته ومحبته الغافرة أرسل ابنه ليكون سبباً في غفران خطايا المؤمنين (1يو9:1).

    2. المسيح أتي ليبرر المؤمنين فيسلكوا في بر "لأنه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" (2كو21:5). ومن يتبرر يثبت في الابن فيحمله الابن إلى حضن الآب البار.

    والمسيح هنا يوجه هذا اللقب للآب بعد أن أنهى صلاته الشفاعية كأنه يشير أنه طلب كل طلباته في هذه الصلاة لأنه:

    1) يعرف بر الآب الذي لا يعرفه سواه فهو وحده الذي يعرف قداسته وعدله ومحبته ورحمته، ولذلك فهو يتوجه إلى عدالة الآب وبره التي بها غفر للإنسان عن طريق صليب إبنه، وهو يُسِمعْ تلاميذه ما يقول ليعرفوا محبة الآب لهم وتدبيره، الذي جذبهم من العالم فعرفوا المسيح وآمنوا به فصاروا بنين. وإذ صاروا بنين حق لهم حب الآب كأبناء ولن يكون نصيبهم كنصيب العالم الذي لم يعرف الله بل جحده= لم يعرفك= فكيف يعرف العالم الخاطئ الآب البار، كيف يكون هناك شركة للنور مع الظلمة. بالإضافة لأنهم هم رفضوا ما أعلنه المسيح فحرموا من مجده. يقولها المسيح في أسى عليهم. هؤلاء عرفوا= أي التلاميذ، وهؤلاء قبلوا الحق المعلن في المسيح فإستمتعوا بمجد المسيح وكانت لهم حياة أبدية (يو3:17).

    2) طريق معرفة الآب هو أن نسلك في بر. ولأن التلاميذ سلكوا في بر فهم عرفوا الآب وعرفوا الإبن وبررهم الإبن فعرفوا الآب معرفة أعمق. أنا عرفتك= لا أحد يعرف الآب إلاّ الإبن. وهنا المسيح يتكلم بفم الإنسان الجديد أي الكنيسة التي إشتراها بدمه ولقنها معرفته. الإبن لبره يعرف الآب. ومن يؤمن به ويسلك في بره فسوف يعرف الآب أما العالم الرافض للبر فهو يرفض الآب فلا يعرفه. ولاحظ أنه لا يوجد إنسان قادر أن يتبرر وحده، لهذا أتى المسيح ليكمل كل بر فيبرر من يؤمن به، وكل من يجاهد ليسلك في بر يبرره المسيح فيعرف الآب ويثبت فيه وفي محبته.

    

    آية (26): "وعرفتهم اسمك وسأعرفهم ليكون فيهم الحب الذي أحببتني به وأكون أنا فيهم."

    عرفتهم إسمك= أي أن المسيح إستعلن الآب وقوته ومحبته. اسم الآب أي محبته فالله محبة. أي أن المسيح عرفهم ذات الآب (اسمه). ومن أدرك محبة الآب وعرفه رفض محبة العالم الزائف الفاني. وسأعرفهم= التعريف باسم الله الآب عمل بدأه الإبن بتجسده وسيمتد للأبدية فالله لا يُدْرَكْ كماله، وهذا ما فعله المسيح بأن أرسل الروح القدس ليرشد إلى جميع الحق (يو13:16) ويسكب محبة الله في قلوبنا (رو5:5). وكل من بدأ يعرف اسم الله هنا سيكمل له المسيح المعرفة في الأبدية ومن رفض الصليب هنا ورفض أن يتعرف على اسم الآب لن يكون له نصيب أبدي.. ومن سكن اسم الآب في قلبه في تقوى فقد سكن الحب الأبوي فيه بضمان سكني المسيح. إذاً هي معرفة مستمرة متنامية، وشركة متزايدة بعمل الروح القدس. ليكون فيهم الحب= كلما نعرف ربنا بالأكثر نمتلئ حباً له وللناس. فالعلاقة الحية تتم بالمحبة. وأكون أنا فيهم= هو القيامة والحياة (يو25:11) فحينما يكون فينا تكون لنا حياة أبدية. ونحن لن نذوق الحب الأبوي بدون المسيح (يو27:16) فالحب الجارف في قلب الآب إستطاع المسيح أن يحوله نحو قلوبنا ولكي يضمن إنسكابه فينا أمّن على ذلك بوجوده الدائم (مت20:28). وصحيح أن المسيح سيفارق تلاميذه بالجسد ولكنه سيظل فيهم بالروح للأبد، لن نراه بعيوننا المادية ولكن نراه بعيون قلوبنا التي سوف تشعر وتتيقن من وجوده. ومن يعرف المسيح حسب الجسد فلن يعرفه بعد (2كو16:5، 17). لذلك فشغل المسيحي الدائم أن يحوز على حلول المسيح في القلب (أف16:3-18). ولكن لاحظ ترتيب الآية. فالمسيح بدأ عملاً هو أن يعرفنا بالآب وسيكمله بالروح القدس وكلما إزددنا معرفة نزداد حباً. والهدف النهائي أن يسكن المسيح فينا ويتحد بنا فهذا هو المجد الذي أراده للبشر والحياة الأبدية لهم في المجد. هذا هو هدف التجسد، أن نكون في المسيح ويكون هو فينا. والصليب كان لغفران خطايانا فنتطهر ونؤهل لسكنى المسيح فينا. والعجيب أن الآيات التالية هي مؤامرة يهوذا والكتبة والفريسيين والكهنة ورؤساءهم والجند والرومان ضد من أحبهم كل هذا الحب!! فبينما كان المسيح يتكلم بهذا كانت المؤامرة تتم في الخارج. قارن مع (يو2:18).

المصدر موقع القيس تكلا